رشيدة الركيك
سر الوجود ومعنى الوجود هو ما يجعل للحياة طعما و دلالة على اعتبار أن الإنسان يعيش في عالم من الدلالات والمعاني.
لكل شيء معنى لا علاقة له إلا بذاتي أنا كإنسان، فأنا الحامل للمعنى و أنا المصدّر له، ما يجعلني أفهم الأشياء بلغتي و قاموسي الخاص.
تتعدد الموجودات و المواضيع لكن لا تحمل في ذاتها معنى غير ذلك الذي أعطيته لها أنا كذات يسكنها الماضي وما تركه الألم من آهات أنين. و الحقيقة أن كل واحد منا حامل لكل المعاني هو وحده من يمتلك شفرة حلها.
علاقتنا بالأشياء تبدو واحدة لكن كل واحد يمتلك مبدأ القبول و النفور للأحداث انطلاقا من ذاته. فهل العقل من يحدد السلوك ويعطي دلالة للمعاني، أم أن الذات حاملة لأسرار أخرى ؟ ألا يمكن القول أن التسليم بالعقل يحجب عنا أسرار الانسان وحقيقة وجوده و تفرده ؟
يبدو أنها حقائق لا يمكن أن تخرج عن ما هو ذاتي وتاريخ فردي خاص بكل واحد منا.
بين الوجود وحقيقة الوجود معاني تجد لها رموزا في ذاكرة كل واحد منا ، هي لغة الذات مع نفسها، هي قاموسها الذاتي، بل سر من أسرارها. فتأخذ المعاني صفة السلوك وتعبر عن نفسها في صيغة الفعل وتكسب للذات صفات أخلاقية معينة . هي معاني خطت في مخيلة الفرد من خلال معاناة مضت وتركت آثرها على مستوى الفكر في شكل دلالات تكون سر كل قبول أو رفض.
كل واحد منا يتكلم عن صندوقه الغامض من خلال عقله بلغة واضحة ليبدو بطلا في تأليف الأفكار والمنطق. و كأنه لا يمكن أن يبرر وجودها سوى المنطق الزائف في ربط العلاقات فيما بينها. ألا يمكن الحديث عن ربط الأحداث والدلالات، عوض استنباط الأفكار من بعضها البعض من أجل الفهم؟
تتكلم الذات عن نفسها في شكل سلوك قد لا يكون له علاقة سوى بما حدث ، فما هو ذاتي يستعمل العقل ليصبح موضوعيا يفرض الاتفاق و الاجماع. فلا تستطيع الذات إذن الخروج عن أحاسيسها الماضية و يضللنا العقل ليخفي كل نشاط سواه، وكأنها خدعة من خدع الذات المصدومة في نفسها.
وبهذا المعنى، أكيد ليس هناك من هو شرير و الآخر طيب بل هناك من تختار له المعاناة لغة خاصة في فهم الأحداث و سيرورتها. إنها ما يشكل نقطة الاختلاف بين الناس، فهي ما يجعلهم يتكلمون لغة واحدة و لكن بأحاسيس مختلفة.
أكيد إذن كيفما أرى الأحداث و كيفما أفهمها هو الذي يحدد سلوكي، و الفهم له قاموس واحد هو التجربة الذاتية وليس العقل و المنطق كما قد نعتقد، غير أن الناس يحاولون إقناع بعضهم البعض باستعمال مختلف آليات الحجاج كي نوحد هويتنا الإنسانية باعتبار أن الإنسان كائن عاقل بامتياز كما يقال. و مع أننا في كثير من الأحيان نعرف الخطأ لكننا نقوم به و كأننا نعانده أو نرغب فيه. و ما دام الأمر كذلك فما موقع الخطأ من الإعراب؟ هل يمكن أن يكون
سوء استعمال للعقل؟ أم أن تفردنا في معاناتنا يفرض علينا البحث عن ما يوحدنا للتكلم عن إمكانية التواصل فنستعمل العقل كلغة مشتركة؟
أليس كل واحد منا سجين معاناته و لا يتواصل أو يتفاوض إلا معها حتى يظهر أو يخفي ما يريد إلى حينه؟
يتمظهر الإنسان إذن في تصويره الداخلي إلى حد الآن كأنه الكأس المكسور و الذي انتهى صوته مع الزمن لكن أشلاءه لا زالت تمزق أحشاءه بدون رحمة، و من كثرة الألم يتعلم الإنسان كيف يكون قويا مستدعيا قدراته العقلية المذهلة محافظا على وجوده في صورة كائن عاقل كما أريد له أن يكون.
عموما تعلم الطفل فينا كيف يداوي جروحه بالنسيان أو التناسي رغم قلة حيلته و بساطة فكره. فكبر فينا الطفل المكسور في أحشائنا و عبر عن نفسه في شكل مواقف و سلوكات، تهجو الزمن و الظروف بطريقتها وتفرض حماية نفسها، فكل ذات اختارت لغة العقل لتحسن تواجدها بشكل اجتماعي راق متسامح مع الأحداث، و الحقيقة إنها لغة الألم ما يؤدي إلى بزوغ الدلالات و المعاني.
لغة الألم لها ما يبررها، ظروف قاسية استطاعت الخروج في شكل معنى أو موقف استحساني أو استهجاني، فكيف يخرج الإنسان من سجن آلامه و عذابه الأبدي متجاوزا جدار الأحاسيس السلبية؟ ما السبيل لتحرر الذات من هذه القيود ليتحرر معها العقل ؟
إن كل ما هو مفكر فيه أو غير مفكر فيه ليس سوى تعبير عن مجموعة أحاسيس سببتها المعاناة و الألم لازال صداها مدويا داخل الذات، و كل محاولة لتجاهلها يجعل منه إنسانا غريبا عن نفسه و عن غيره، لذلك فالتصالح مع الذات لن يكون إلا بلغتها الخاصة و بفك شفرتها الصعبة.
إنها الذات الغامضة حتى بالنسبة لنفسها، إنه الماضي الذي يتكلم بدون حدود مع أنه داخل قفص المعاناة المطوية عبر السنين في شكل تراكمات، تجعلنا نفهم الأشياء بمرجعتيها. إنها السياق العام لحسن التواصل مع الذات السجينة.
ويشيب ذلك الطفل فينا ويتكلم بلغة السنين ومعاناة السنين و لكن بخبرة أعمق، خبرة أتقن فيها لغة المعاني و بنوع من التمركز حول الأحاسيس الخاصة، يخرج منها بلغة الواقع ليصبغ ذاته بلون أحبه الجميع و بذوق الواقع الاجتماعي، غير أنه في الحقيقة يحمل تفردا و بصمة خاصة. وهكذا قد خدعتنا من جديد حنكة التجربة الفردية في تقييمنا للأحداث.
من تم لا وجود لمعنى خارج الذات و لا يمكن القول أن العقل أو الواقع من يصنع المعاني، بل هو الفرد وما صنعته الأحداث من مواقف و اتجاهات شخصية، إنه العالم المظلم في كل واحد منا هو الحامل لكل المعاني. لا مجال إذن للحديث عن مفارقات: هذا شرير أو طيب، متخلق أو غير متخلق. لكن كل واحد تصنعه الظروف لتنتج معاني صلبة عنيدة تقهر كل عقل و كل منطق قد يتصارع معها الإنسان لكنها لا تفرض إلا ما أنتجته المعاناة و أنينها، إما كرفض للأوضاع أو كدعوة لأخرى مناقضة تتلاءم بطريقة ما مع الأحداث و ستدمجها في هويتها بطابع خاص. و رغم تدخل العقل تطغى عليه الأحاسيس السلبية الماضية و التي كلما لامسناها أعطتنا بسخاء و أقنعتنا بأحاسيس صاخبة و دالة تفرض نوعا من التفكير دون غيره، فتصبح لغة الأحاسيس لغة الإقناع عوضا عن العقل.
و لهذا لم يستطع العقل التحكم في الحقد و البغض، بل كان في خدمتها كدليل على أن لغة الأحاسيس المتوحدة مع الذات هي ما يعبر عن حقيقة هويتها وما يفسر منطقها وسلوكها وجبروتها أو ضعفها. يعمل العقل دائما على إخفاء كل منطق خارج عن منطقه.
هكذا تحرك الأحاسيس الإنسان بشكل جنوني وبطاقة رهيبة لا تعرف من أين تتدفق وكيف تعمل و في أي اتجاه تسير ووفق أي منطق تشتغل. كيف نفهم الأحاسيس المتذبذبة و الزئبقية و المستهترة بكل شيء سواها، لا تتقن إلا لغتها الأصلية المستنبطة من كل معاناة معاشة، إنها العالم المعيش والتجربة الذاتية مع الأحداث ما يعطي كل الدلالات و المعاني الفردية. فكيف تخرج الذات المفكرة من سجن الأحاسيس السلبية المدمرة؟
لابد أن نحسن التواصل مع الذات، لا بد من معرفة معتقداتها التي تحركها و القادرة على رفع مقياس حرارتها الطبيعية، ولفك شفرتها كان لا بد من القراءة الجيدة للأحداث من جديد لنغسل قلوبنا مما علق بها من جراء السنين وآلامها ثم السماح للغة الأحاسيس الخروج من معقلها حتى لا تخدع نفسها وغيرها .
جرح الألم لا زال ينزف في شكل مواقف طالما لم نحاول وقف نزيفه، وتجاهله سيظل مصدر ألم لكل ذات أخرى.
إنه عالم الأحاسيس الغريب حاولنا طرق بابه لعله يبوح لنا بشيء من أسراره المسكوت عنها والتي يجب أن ندخل معها في حوار دائم وإلا وجهت سلوكنا في اتجاه غريب قد لا نعرف نهايته.