محمد أديب السلاوي
- 1 –
· انطلاقا من سنة 1956، حيث استعاد المغرب استقلاله الوطني، عمل ورش التربية والتعليم بأساليب و مخططات و إستراتيجيات مختلفة، بهدف تعميم التعليم، و انفتاحه على القيم الروحية و الثقافية، و توفيره فرص متكافئة لمختلف مكونات الشعب المغربي، للانخراط في أسلاكه و منظوماته. كما بذل جهدا ملحوظا من أجل إدماج العلوم و التقنيات الجديدة في برامجه، في محاولة لتكييفه مع التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية للعصر العالمي الحديث. إلا أن السياسات التي اعتمدها هذا الورش، منذ البداية، و التي قامت في أساسياتها، على الاستجابة لمرحلة ما بعد عهد الحماية، استنفذت أغراضها مع ظهور عصر العولمة، و معالم " القرية الكونية " و هو ما كان يتطلب طي مرحلة الماضي، وبناء نظام تربوي جديد، في مستوى تحديات العولمة و القرية الكونية الجديدة، و هي تحديات تقوم على مبادئ و قيم مغايرة.
في أفق ستينات القرن الماضي، عرفت التربية في بلادنا توجها عاما، تجلى في ربط التربية بالتنمية، و هو ما كان من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى التنمية البشرية، و الإحساس بإنسانية التربية ، و لكن مع حلول الألفية الثالثة، فوجئ المغاربة بتراجع موضوع التربية إلى مرتبة ثالثة، بعد العولمة و الديمقراطية بحمولتها الضخمة، القائمة على حرية الفكر/ حرية السوق/ حرية الاعتقاد. و فوجؤوا أكثر من ذلك، بعدم قدرة السياسة التربوية على التصدي للآثار السلبية الناتجة عن عولمة الاقتصاد، و لا التصدي لإشعاعية الديمقراطية.
- 2 –
هكذا، و بالرغم من الإنفاق الضخم الذي صرفته الدولة على قطاع التعليم خلال العقود الخمسة الماضية ( حوالي 25 % من الميزانية السنوية العامة ) لم تستطيع الأنظمة التربوية ، الإسهام في عملية التنمية المنشودة، و لم تستطيع تحقيق النتائج المرجوة، للديمقراطية إذ ظل التعليم متخلفا في مناهجه و هياكله و مضامينه و طرائقه.
إن النقد العلمي / التربوي، الذي واجه السياسات التعليمية بالمغرب خلال العقود الخمسة الماضية، يؤكد أن هذه السياسات عرفت تخبطا و عدم وضوح في العلاقة بينها و بين احتياجات الهيكل الوظيفي للتعليم، إضافة إلى غياب فكر تربوي واضح المعالم من شأنه إنجاز مهام التنمية الشاملة، التي طرحت نفسها باستمرار على المغرب خلال هذه الفترة من التاريخ.
و في نظر الباحثين في الشأن التربوي المغربي، أن القصور في هذه المسألة، لا يعود فقط إلى فشل النظام التعليمي وحده، و لكن أيضا إلى إخفاق و فشل برامج التنمية ذاتها، لعدم قدرتها على استيعاب الاحتياجات الفعلية للواقع المغربي، و ما يرتبط به من قضايا سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية .
و في نظر هؤلاء الباحثين أيضا، أن السلبيات التي أحدثت فجوة واسعة بين النمو في جهاز التعليم، و النمو في حركة الواقع المغربي متعددة ، يمكن إنجازها في :
1 - عدم استطاعة سياسات التعليم، الوفاء بحاجات البلاد صناعيا و زراعيا. و استيعاب الطاقة العاملة، مما خلق فائضا كميا كبيرا في إعداد الخريجين ، و اعاق بشكل ملموس ، عملية التنمية و التطور الاقتصادي و الاجتماعي بالبلاد.
2 – الاتجاه المستمر لسياسات التعليم، نحو تغطية حاجيات الإدارة من الكوادر الوسطى، و هو ما يتنافى تماما مع مخططات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المطلوبة .
3 – عدم اهتمام سياسات التعليم، بالتعليم التقني، و جعل كل الحوافز أمام التعليم الجامعي
4 – اعتماد سياسات التعليم، في العديد من المحطات لأهداف طموحة، من غير أن تسخر لها الوسائل الكفيلة لتحقيقها.
5 – عدم استناد هذه السياسات على تخطيط علمي، يضمن التوازن الضروري بين أهدافها و برامجها من جهة، و بينها و بين المخططات الاقتصادية من جهة أخرى.
6 – عدم اعتماد هذه السياسات على استراتيجيات متواصلة للتكوين المستمر للأطر العاملة في حقل التعليم، تواكب أهداف التنمية و طموحاتها.
7 – افتقار هذه السياسات إلى مقومات و خصائص التعليم السليم، الذي يكون عونا على التعليم الاقتصادي و الاجتماعي، إذ ظل مسخرا لخدمة أهداف النمو الاقتصادي ، الذي تتحكم فيه قرارات خارجية، و ليس التنمية البشرية التي تستجيب للمتطلبات الوطنية .
- 3 -
بذلك يكون ورش التربية و التعليم انطلاقا من سنة 1956، و حتى اليوم، رغم ما بذله من جهد، لم يستطيع الإسهام في عملية التنمية المنشودة، لم يحقق النتائج المطلوبة، إذ ظل بشهادة الحكومات و الأحزاب و النقابات و المجتمع المدني، و بشهادة علماء التربية، متخلفا في هياكله و مضامينه و طرائقه. لم تمس المحاولات المتعاقبة لإصلاحه، إلا بعض جزئياته الشكلية، من دون أن تغير من مقوماته الجوهرية. فبقى أسير أوهام الماضي، سواء في تمسكه بأسلوب التلقين، أو في اختزاله تقويم الكفايات و الكفاءات، أو في القدرة على الاسترجاع و الاستذكار، لم ينجح في أن يجعل التفكير العلمي بديلا عن التفكير الخرافي القائم على الحدس والوهم. لم ينجح في تأسيس ثقافة شعبية قائمة على أسس علمية بديلة، يتطلبها التواصل مع عصر العولمة...و مع تحديات الديمقراطية... و مع متطلبات التنمية.
يعني ذلك بوضوح، أن السياسات التعليمية في المغرب و نتيجة للسلبيات المذكورة، قد ركزت خلال العقود الخمسة الماضية على المحفوظات و المعلومات و المقررات، أكثر مما اهتمت بصياغة الإنسان/ المواطن الصالح/ العارف لحقوقه وواجباته/ المشبع بقيمه الوطنية و الروحية و الإنسانية/ المؤهل لمواكبة التطورات الفكرية و العلمية، و متطلبات العولمة و الحداثة.
و نظرا لهذه الحالة من التردي، التي لم يستطيع ورش التعليم المفتوح على مصراعيه منذ سنة 1956، و حتى الآن، معالجتها أو التحكم في سلبياتها، فإن أية مقاربة تقليدية للإصلاح أو المعالجة، لم يكن أمامها سوى إعادة إنتاج نفسها و بدرجة أسوأ. وأقصى ما أعطته من نتائج، هو محافظتها على مستوى تخلفها عن الركب العالمي.
إن ما قد ينتج من آثار وخيمة على مستقبلنا الاقتصادي/ الاجتماعي/ الحضاري، جراء سيادة العولمة، و اكتساحها في غياب نظام تربوي على مستوى تحديات هذه " السيادة " قد يعرض واقعنا، كبلد ينتمي للدول الأكثر تخلفا في اقتصاده، يعاني من الأمية المتعددة الصفات : ( أمية أبجدية. أمية تكنولوجية . أمية سياسية. أمية ثقافية ). و يعاني من الفقر و التهميش و البطالة، لا يخضع لأي تخطيط، غير مرتبط بأية صيرورة تنموية ... قد يعرضنا لتأثيرات سلبية، لا أحد يستطيع تصورها أو تحديد نتائجها.
إذن ما هي التربية التي يجب اختيارها لبلد في وضعية المغرب، في ظل المتغيرات التي يعرفها عالم اليوم، والمتعلقة خاصة بالتنمية البشرية. و بالعولمة و التنافسية و التبادل الحر و الحداثة و التكنولوجية؟
ما هي التربية التي تستطيع تدارك ما فات لبلد في وضعيتنا، و تحقيق قفزته النوعية التي تضعه على سكة العصر، بقيم جديدة، و مسارات جديدة تستجيب لاختياراته الديمقراطية و الحضارية، و لقيمه الروحية...؟
- 4 –
يلخص علماء الاقتصاد مفاهيم التنمية البشرية ، التي تضعها السياسات التعليمية ببلادنا كاختيار أساسي، في اكتساب الساكنة القدرة على الرفع من ناتجها الحقيقي الإجمالي، بكيفية تراكمية. و هو ما يعني الزيادة و التوسع في الإنتاج/ الاستغلال الأمثل للموارد البشرية المتاحة/ الرفع من قدراتها الإنتاجية/ تهيء تكافؤ الفرص الاقتصادية بين المواطنين و بين المناطق المختلفة للوطن/ الارتفاع في الدخل السنوي للأفراد/ التنوع في الاقتصاد الوطني/ المحافظة على التوازن بين المشاريع الصناعية و الزراعية .
و من أجل تحقيق هذه التنمية على أرض الواقع يؤكد العديد من المفكرين و علماء التربية و الاقتصاد في عالم اليوم، أن التخطيط التربوي القائم على تنمية الثروة البشرية ، وحده يستطيع تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة. فالتنمية البشرية لا تنحصر في إطار اقتصادي صرف، و لكنها تتجاوزه إلى إطار واسع للنمو، تأتي في تراتبيته ، الناحية البشرية قبل الاقتصادية، لذا تأتي عناية الدول المتقدمة حضاريا و اقتصاديا و اجتماعيا، بالثروة البشرية، و تسخير هذه الثروة للازدهار و التقدم و رقي المجتمع، في مقدمة أهدافها التربوية ... و التنموية .
يعني ذلك، أن العلاقة جدلية بين التربية و التنمية. فكل واحدة منهما، تؤثر و تتأثر بالأخرى، لدرجة يصعب الفصل بينهما. فالتربية تؤثر على التنمية من خلال المشروع الذي يتم تحديد غاياته و أغراضه بكل دقة و موضوعية، و رصد الموارد و الإمكانات لتحقيقه و تقويم مراحل إنجازه، مما يسمح في نهاية المطاف من تحقيق أهدافه المخططة و المرسومة. و بالمقابل تستفيد التربية من التنمية، بحيث يساهم النمو الاقتصادي، في توفير الحاجيات الأساسية للمجتمع و تحقيق فائض الأموال الضرورية لتطوير العمل التربوي و جعله يحقق أفضل مردودية تنموية.
- 5 –
· من بين السمات البارزة للألفية الثالثة: العولمة الاقتصادية/ شمولية التبادل الحر/ الصراع التنافسي بين الدول/ التطور التكنولوجي المتواصل/ التواصل الإعلامي، السياسي، الثقافي المطرد/ التنمية البشرية، و هي تحديات تواجه قبل كل شيء ، الأنظمة التربوية التي أصبح عليها تكوين المواطنين، بناء على مناهج المعرفة، و على روح الحداثة، و على استيعاب التطورات العلمية التكنولوجية و تسخيرها لفائدة المجتمع و الدولة، ذلك لأن الأنظمة التربوية ــ في عصر العولمة ــ أخذت تتجه بالأساس، إلى حصر حاجيات المواطنين، من المعارف و التقنيات التي يمكن الانطلاق منها، لتحقيق تراكمهم المعرفي الكفيل، بتشكيل ثقافة في مستوى هذا العصر و اشتراطاته.
إن الحضارة الإنسانية ، أصبحت بفضل ثورة المعلومات و الاتصالات، تعيش على إيقاع ثورة معرفية جديدة، قلبت رأسا على عقب كل ما عرفه الإنسان و مارسه المجالات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، خلال القرون الماضية. فمفاهيم الدولة الوطنية، و السلطة و الأسرة بدأت تتلاشى، أمام الكم الهائل من المعلومات التي أصبح من الصعب ضبطها ، خارج شروطها العلمية/ التكنولوجية/ الاتصالاتية... و هو ما يعني بالنسبة لعلماء التربية، استحالة صياغة أية سياسية تنموية، خارج هذه الشروط.
يعني ذلك بوضوح، أن اكتساح العولمة، كالتخطيط للتنمية البشرية، يبدأ من المسألة التعليمية و من تأهيل المدرسة لدورها المركزي في مواجهة واقع التخلف، و القيام بمهام التحديث و التغيير على مختلف المستويات المؤسسية، و في تنشئة أجيال منتجة و مبدعة و حاملة لأصالتها الحضارية في مختلف أبعادها، باعتبار أن جوهر التربية و التعليم في ظل التحولات العالمية الراهنة، هو تكوين النشء و إعداده ليصبح قادرا على مواجهة تحديات العولمة و التفاعل مع متطلبات التنمية و شروطها.
تشترط التنمية البشرية، في عصر العولمة على البلدان المختلفة/ الفقيرة، من أجل إخراجها من حالتها المتردية، ثلاثة شروط أساسية :
ــ وضع نظام تعليمي حديث يقضي على الأمية و الجهل، و يعد الناشئة للحياة و العمل و الإنتاج.
ــ الأخذ بآخر التطورات العلمية و التكنولوجية و تطبيقاتها في الزراعة و الصناعة و التجارة.
ــ وضع نظام حكم ديمقراطي يتيح مشاركة كل الشرائح الشعبية في صياغة القرارات، و في إطلاق قدراتها المبدعة في خدمة الشعب.
إلا أن هذه الشروط، بالنسبة لبلد عالمثالثي، متخلف اقتصاديا، في عالم يعرف تحولات حضارية عميقة، لا تعني مطلقا أن يفقد هذا البلد هويته الثقافية أو شخصيته و مكانته بين الأمم.
إن الخضوع لشروط التنمية البشرية في عصر العولمة في مجال التربية و التعليم، يبدأ من استثمار الجهد في التربية ، و إقامة تعليم موجه نحو المشاركة و التسلح برؤية مستقبلية، تقوم على قاعدة، أن يكون الاستهلاك في مستوى الإنتاج، و أن يكون انفتاح الأجيال الصاعدة على العمل و على الإنتاج الذي ينفعها غدا، ذلك لأن فاعلية التعليم في عصر العولمة تعني قبل كل شيء ، تأهيل العنصر البشري لامتلاك ناصية العلم ، و التحكم في الآليات التكنولوجية، و تأهيله للخلق و الإبداع في مختلف المجالات، و تسخيرها للمصالح الوطنية ، انطلاقا من محافظته على قيمه الروحية/ الدينية و الثقافية... و تشبته بقيمه الحضارية.
- 1 –
أزمة التعليم في المغرب، لم تعد شأنا داخليا بعد تدخل البنك الدولي الذي أثار انتباه المغاربة مؤخرا إلى وضعيته المتردية ، التي فشلت في اختيار الطريق الأصلح للخروج من حالة التخلف الاجتماعي و الاقتصادي الذي يعاني منه المغرب منذ عدة عقود، رغما على " المجهودات المادية " المبذولة من أجل ارتقائه و تحسين أدائه.
التقارير الداخلية و الخارجية، التي أنجزت عن التعليم المغربي خلال العقود الاخيرة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن العراقيل و المشاكل التي تعيق هذا القطاع، تتمثل أساسا في التوسع المستمر لآفة الأمية، من الأمية الأبجدية، إلى الأمية التكنولوجية والسياسية والثقافية/ ضعف نسبة التمدرس خاصة في العالم القروي، و بالأخص بالنسبة للفتيات/ ضعف جودة التعليم في كافة اسلاكه، انطلاقا من سلك التعليم الأساسي، و هو ما يعني، الفشل الكلي في تحقيق مبدأ التعميم. و الفشل الشامل في ربط مناهج التعليم بالتنمية، رغما على المجهودات المادية الهائلة التي تمت في هذا المجال، و الأموال الطائلة التي تم صرفها عليه. و هي مجهودات تصنف المغرب من بين الدول العالمتالثية التي تخصص نسبة عالية من مواردها لقطاع التعليم .
و من الجدير ذكره في هذا الصدد، أن كلفة التكوين الفردية السنوية للتلميذ المغربي الواحد، في السلك الأول من التعليم الأساسي، تبلغ حتى الآن حوالي 2300 درهم وفي السلك الثاني من هذا التعليم تبلغ 4400 درهم و مع ذلك تبقى هذه الأرقام متواضعة مع تكلفته في دول أخرى بأوربا ( أي حوالي 14 مرة أقل مقارنة مع فرنسا مثلا).
إن ميزانية التربية و التعليم، مثلت خلال العقود الثلاثة الماضية معدلا سنويا يفوق 23 % من الميزانية العامة للدولة، و هو ما يمثل 6 % من الناتج الداخلي الخام و ذلك دون الموارد التي تصرفها الأسر مباشرة لاقتناء لوازم التمدرس ، من كتب و دفاتر و أدوات. ودون أداء تكاليف الرسوم و الدروس الإضافية. و مع ذلك لم تستطيع هذه الميزانية الضخمة، تحقيق ما تحتاج إليه البلاد من تكوين و قضاء على الأمية، و رفع مستوى التعليم لمواجهة التحديات القائمة في القطاعات الاقتصادية و الاجتماعية، كما لم تستطيع متابعة مجموع البرامج المقررة في مجال التعميم و تحسين التأطير، و رفع المردودية الداخلية للنظام التربوي.
- 2 –
السؤال الذي تطرحه هذه الحالة الإشكالية على مغرب اليوم : اين يكمن الخلل...؟ هل في نظرتنا إلى التعليم.... أم في إدارتنا لقطاعه؟
في الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نتوقف عند سلك التعليم الأساسي (كنموذج) باعتباره المدخل الرئيسي لإشكالية التعليم في كل أسلاكه الأخرى، وباعتباره أيضا الأرضية الصلبة التي تقوم عليها الشخصية التعليمية بكل إيجابياتها وسلبياتها...
التعليم الأساسي، في التعريفات الأكاديمية الدولية (اليونسيف/ اليونسكو/ الاسيسكو)، هو الذي يزود المواطن بالمعارف و المهارات العلمية الأساسية ، لمزاولة بعض الحرف البسيطة، أو لزيادة دخل الأسرة في المجتمعات الريفية و الحضرية ... وهو الذي يكفل للمواطن التمدرس عن طريق التفكيرالسليم،
ويؤمن له حدا من المعارف والمهارات والخبرات التي تسمح له بالتهيء للحياة وممارسة دوره كمواطن منتج... وهو التعليم المناسب لجميع المواطنين، الذي يوفر لهم الحد الأدنى من الفرص التعليمية.
و في الوثائق المغربية الرسمية، التعليم الأساسي، هو مرحلة تعليمية تربوية إجبارية، مدتها تسع سنوات، تثبت في المتعلم القيم الإسلامية، و تكسبه القدر الضروري من المعارف و المهارات الإيجابية، مما يجعله قادرا على تحقيق الترقي الذاتي، و يؤهله للاندماج في مجتمعه، و المساهمة في تطويره، و مسايرة ركب التطور الإنساني و الإسهام فيه.
انطلاقا من هذه التعريفات " الأكاديمية " تبرز أمامنا العديد من الأسئلة الأخرى، أهمها : ما هي أسباب تراجع تعليمنا الأساسي عن هذه القيم و المواصفات...؟
تقول الشهادات المتوفرة عن هذا السلك من التعليم :
ــ إنه بقي حتى اليوم، يعاني من القطيعة التامة بينه و بين التعليم الأولى (ما قبل المدرسي ) رغم ما لهذا الاخير من أهمية في تحديد و تشكيل معالم شخصية الطفل، و تفتيق مواهبه و قدراته، الأمر الذي يحتم الابتعاد عن تلقين المضامين و خزن المعارف، و يفترض اعتماد المقاربات التواصلية التي تنمي فيه سلوكات و مواقف تؤهله للتفاعل الإيجابي، مع المحيط الاجتماعي و الثقافي.
ــ إنه لم يستند إلى اختيارات اقتصادية و اجتماعية و سياسية و ثقافية واضحة ومحددة، يسهم فيها الجميع توجيها و تأطيرا. و إنما جاء نتيجة ظروف و أزمات متعددة، انعكست عليه، مما جعل الوزارة الوصية ترفع باستمرار، شعار الترميم، عوض الإصلاح والتجديد و إعادة الهيكلة و البناء، بغية الانسجام مع الإكراهات المتتالية التي تواجهها من كل جانب.
ــ إنه رغم لجان الإصلاح المتعددة، بقي بعيدا عن الاستراتيجية المتبصرة، التي من شانها تكييف مناهج التعليم الأساسي، مع البيئة المحلية، و أساسا مع العالم القروي، الذي مازال تعليمه بعيدا في مستواه و حجمه عن التعليم في الحواضر، خاصة ما يتعلق بتعليم الفتيات.
ــ إنه فشل في الانفتاح على محيطه الخارجي، إذ لم يتمكن من جعل المدرسة الابتدائية ( الأساسية ) فضاء للتنشيط الاجتماعي و الثقافي و الفني، و إن يجعلها قطب انجذاب أساسي، في المحيط الذي تتواجد فيه و من أجله.
ــ إنه رغم ما يتطلبه من مصاريف ضخمة، و ما يشكله كعبئ ثقيل على كاهل ميزانية الدولة، فإن مردوديته ضلت ضعيفة شكلا و مضمونا، إذ يستفاد من التقارير الرسمية، إن ثلاثة عشرة في المائة ( 13 % ) فقط، ممن يلجون التعليم الأساسي،هم الذين يحصلون على شهادة البكالوريا، بينما لا تشكل نسبة الحاصلين على شهادات عليا، سوى خمسة بالمائة (%) ، و ذلك دون ظاهرة مغادرة الدراسة في سن مبكرة لعدد كبير من التلاميذ، في العالمين القروي و الحضري، و هي ظاهرة يستعصي تبريرها بحكم تداخل عوامل عدة، أبرزها أن التعليم أصبح في نظر العديد من الآباء و الأمهات و أولياء التلاميذ لا يجدي نفعا بحكم طبيعة التباعد القائمة بينه و بين سوق الشغل ، و بسبب صورة المعاناة اليومية للخرجين و حملة الشواهد الذين لم يعد بوسع لا القطاع العام، و لا القطاع الخاص استعابهم و تشغيلهم.
أما بالنسبة للهدر المدرسي فهي في ارتفاع مستمر و خاصة في الأوساط الفقيرة : من بين 100 طفل عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 85 و يلتحق بالإعدادي 45، و يصل نهاية السلك الإعدادي 32 و يدخل الثانوي 22 و يحصل على الباكالوريا 10، بالإضافة إلى ذلك تتعمق الفوارق بين الوسط القروي و الحضري وبين الذكور و الإناث : إذ من بين 100 طفل قروي عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 66. و من بين 100 فتاة عمرهن 7 سنوات تدخل المدرسة 59.
إن تشخيص وضعية التعليم الأساسي، في مطلع الألفية الثالثة بالمغرب، من خلال هذه الأرقام ، تكشف بالملموس مدى حجم التخلف الذي مازال يعاني منه نظامنا التعليمي. تقول هذه الأرقام بوضوح :
أن نسب التمدرس الخام بالمغرب مقارنة مع الدول السائرة في طريق النمو سجلت تأخرا بمعدل 20 % بالنسبة للتعليم الابتدائي و 10 % بالنسبة للإعدادي والثانوي.
- 3 -
إن ما يلفت النظر في وضع التعليم الأساسي بالمغرب اليوم، أنه بعيدا عن الأرقام والإحصائيات، بقي باستمرار، و على مدى أربعة أو خمسة عقود محل نقاش و تجاذب بين النخب السياسية و الثقافية في البلاد دون أية نتيجة تذكر، إذ تبلورت مناهجه و برامجه في البداية داخل اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي أسسها جلالة محمد الخامس تغمده الله برحمته سنة 1957، و هي اللجنة التي وافقت على اختياراته الأساسية : التعميم / التوحيد/ التعريب/ المغربة. و هي نفسها الاختيارات التي عكست الطابع التوافقي على عهد الاستقلال، ثم أعيد النظر في هذه الاختيارات و المناهج، داخل لجنة التربية و الثقافة لسنة 1960، وهي اللجنة المتفرعة عن اللجنة الوطنية لإعداد المخطط الخماسي الأول ( 1960- 1964 ) التي دافعت عن مشروع المدرسة الوطنية الموحدة. و أخيرا شكل هذا السلك من التعليم، بعد تنبيهات البنك الدولي، هاجسا للميثاق الوطني للتعليم ، الذي رأى النور في مطلع الألفية الثالثة، على عهد جلالة محمد السادس. و هو الميثاق الذي خرج إلى الوجود بعد جهد جهيد، و الذي كان الآمل منه، أن يدفع تجاه إصلاح المدرسة المغربية، و إعادة الاعتبار إلى المدرسة الوطنية... و لكن على ما يبدو أن إصلاح هذا التعليم، مازال في حاجة إلى مجهودات أكبر... و لربما إلى سنوات أخرى من العمل و الاجتهاد.
يعني ذلك ،إن الإصلاح الذي كان المغرب و مازال يسعى إليه منذ سنة 1957 و حتى اليوم هو أن لا تبقى مهام المدرسة المغربية، قائمة على حشو اذهان و عقول الناشئة المغربية بمعلومات تجريدية / لا قيمة لها، و لا فائدة منها. و أن تتحول إلى مدرسة جديدة عصرية، في مستوى طموحات و تحديات عصرها، قادرة على إعداد المواطن الصالح، المؤمن، المؤهل، الكفوء، الملتزم بخدمة وطنه، الواع بواجبات المواطنة و حقوقها، المتشبت بقيمه الدينية و الوطنية، المنفتح على ذاته و على الذات الكونية.
الإصلاح المنشود، يسعى إلى جعل التعليم ركيزة أساسية في نسق التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية، و هو يمثل ــ في كل الحالات ــ استثمارا بشريا ضروريا للانخراط في ركب الثورة العلمية و التكنولوجية، التي باتت تشترط التحاق الشعوب و الدول بمسار النهضة الحضارية في عالم القرن الواحد و العشرين.
لذلك، يرى كافة المربين المختصين، أن الإصلاح ، عليه أن يتجه لجعل قطاع التربية و التعليم، قطاعا استراتيجا في نسق التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و هو ما يشترط إلى حد بعيد إمكانية انخراط المغرب في حركة الثورة العلمية و التقنية والتكنولوجية ، هذا الانخراط الذي يشترط بدوره مواكبة مسيرة التطور و التقدم و الازدهار خلال العقود المقبلة.
من هذا المنطلق، أصبح رجال التربية و التعليم، و الخبراء، و السياسيين المصلحين، يلحون على الإصلاح المنتج للتعليم الأساسي، يلحون على جعله تعليما منفتحا على محيط المتعلمين، متعاملا مع واقعهم بشكل جدلي، مؤثرا في واقعهم و متأثرا بهذا الواقع، و هو ما يعني توفير فرص الاندماج بسهولة في النسيج الاقتصادي للبلاد، ليصبح المتعلم عضوا فعالا في التنمية الشاملة للبلاد... و هو ما يشترط كمرحلة أولى و أساسية عدة شروط، منها:
o إدخال التكنولوجيا الحديثة إلى مؤسسات التعليم الأساسي و ذلك بإحداث قاعة متخصصة على الأقل في كل مؤسسة ، وربط المؤسسات بشبكة الأنترنيت و إحداث شبكة للاتصال بين المؤسسات.
o تعميم المكتبات على المؤسسات المدرسية و إغنائها بالمراجع الحديثة و تفعيل دورها داخل المنظومة التربوية.
o وضع برامج التكوين المستمر الذي يعتبر من أهم الرافعات التي تعتمد عليها التربية من أجل تحسين أداء المدرسين و أطر الإدارة التربوية. و الأطر المسؤولة بكل من الإدارة المركزية و الإدارة الخارجية.
o و ضع إصلاح المناهج على ضوء توجيهات اللجنة الخاصة بإصلاح التربية والتكوين، و على ضوء تقويم المناهج الحالية ، ووضع آليات العمل الخاصة بهذا المجال.
o وضع تقويم و تأطير المؤسسات التعليمية الذي يرمي من جهة إلى وضع سياسة ناجعة لتقويم التلاميذ و المؤسسات و من جهة أخرى إلى تفعيل آليات التأطير التربوي والإداري للمؤسسات التعليمية.
o وضع برامج الدعم لفائدة التلاميذ المنتمين إلى الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود، و لتلاميذ الوسط القروي. و يتمثل هذا الدعم في توزيع الأدوات و الكتب المدرسية و توزيع المواد و الوجبات الغذائية و منح الداخليات.
o صياغة أهداف واضحة و محددة و دقيقة لكل سلك من أسلاك التعليم، انطلاقا من ما قبل المدرسي و حتى الجامعي.
o التخفيف من المقررات و إعادة صياغتها وفق طموحات المدرسة الوطنية.
o العمل بمبدأ التناوب لخلق جسور بين التعليم الأساسي، و التعليم الثانوي، ومراكز التكوين.
o تمكين المتعلم بالتعليم الأساسي، من اللغات الحية، العربية، الفرنسية، الإنجليزية، و من القراءة/ الحساب/ طرائق التفكير/ وسائل العمل.
o إعادة النظر في مواد التربية الوطنية، و تعميمها على سائر التخصصات و سائر المستويات.
o العمل بمبدأ التوجيه المعقلن.
بذلك نخلص إلى أن نظام التعليم الأساسي المغربي، في المرحلة الراهنة مقرون بإصلاحات جدرية، تتجاوز الإصلاحات الهيكلية إلى إصلاح مناهج الكتاب المدرسي والإدارة المدرسية و قضايا التعميم و المجانية ، إلى تحسين الكفاية الداخلية و الخارجية للنظام التعليمي، و إلى الربط ما بين التربية و التعليم، و اعتبارهما جزء لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الشاملة، التي تنبني على أسس نابعة من التحديات العلمية التي تواجه المغرب في محيطه العالمي. و على واقع المجتمع المغربي و طبيعة طموحاته الحضارية والثقافية، التي تسعى إلى تركيز موقعه على خارطة العالم الحديث بتجاذباته العلمية والحضارية.
و ان طرح مسألة التعليم الأساسي ( كنموذج ) على هذا المستوى يرتبط في اعتقادنا بطرح أكبر و أشمل، يتعلق بمسألة التخلف و التقدم، في عصر تحولت فيه الثقافة و المعرفة إلى صناعة و استثمار ، و إلى إصلاح استراتيجي لأحكام السيطرة على التحديات القائمة.
لذلك، نرى أن قضية إصلاح التعليم في مغرب اليوم، يجب أن تبدأ من تفكيك الأزمات المترابطة حول اسلاكه، انطلاقا من سلكي التعليم الأولى ( ما قبل المدرسي) والتعليم الأساسي، و إعادة تركيبها وفق شروطها العلمية أولا... ووفق طموحات المغرب الحضارية/ الاجتماعية/ الثقافية/الاقتصادية، ثانيا و أخيرا... و تلك مسألة تتعلق بالإرادة السياسية قبل كل شيء .