عبد العزيز الموساوي
عرفت الأمة العربية والإسلامية منذ بعثة سيد الخلق صلوات الله عليه أعلاما ورجالا خرجتهم المدرسة المحمدية الممتدة في الزمن منذ بروز الصحابة رضوان الله عليهم كجيل التخرج الأول وهم الراسخون في العلم على مر التاريخ، ومن بعدهم ممن نفع الله بهم الأمة العربية والإسلامية، وبهم كان لها النصر والعزة والتمكين ولا زالوا، فهم باقون ما بقي العلم والنور في هذه الأمة " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فَسُئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلواْ وَ أَضَلوا" حديث شريف.
والحديث هنا عن العلماء العاملين لاعبدة الطغاة والسلاطين والمستبدين، الذين يستعملونهم لقضاء مآرب تتعارض والغاية الاستخلافية لوجودهم على الأرض.
وفي الاطلاع على سير الرجال من العلماء العاملين درس بليغ، تستنير به حياة الإنسان كلما طالع واتعظ واعتبر، والدرس الأبلغ في سيرة سيد الرجال خير خلق الله، المصطفى الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهذا ما دفع العديد من علماء هذه الأمة لتعميق البحث فيها، مستشفين الدواء لكل داء قلبي كما فعل صاحب القلم الرشيق المؤثر إذا كتب، وصاحب البلاغة والفصاحة الآسرتين إذا تحدث، صاحب (فقه السيرة النبوية) الشهير الذي تربى عليه ولا شك كثير من صحوة شباب هذه الأمة المعاصر.
فلا يجادل مجادل في أن ما قدمه للأمة العربية والإسلامية العالم العامل الفذ محمد سعيد رمضان البوطي رئيس اتحاد علماء بلاد الشام سابقا، خدمة لتمكين شريعة الله، و تطبيبا للقلوب ونصرة لدين الله ودعوة الله، وعزة للأمة المحمدية. هذا العَلَمُ الذي ولد سنة 1929 للميلاد في أسرة تزخر علما وفيها ترعرع يتيم الأم منارًا للعلم، ولا أطيل هنا في سيرته فبنقرة واحدة بين خيوط الشبكة تُخَول المطالِع معرفة شخصية الرجل، ومكانة الرجل، وقدر الرجل، وبطولات الرجل الشهيد رحمه الله الذي تمكن من ارتجال المنبر وعمره لا يتجاوز السابعة عشرة ومُعْتليا المنبرَ قطف الشهادة (نحسبه كذلك) وعمره أربعة وثمانون حولا في سبيل الله نصرة لدعوة الله. وبعدها ناصره من شاء، وخَونَه من شاء، و صنفه من الخاذلين من شاء، بل و أخرجه من الملة من شاء بناءا على ما شاء من مواقف صدرت من الرجل لحظية صائبة كانت أو خاطئة، وهنا مضمون الدرس البوطي لكل معتبر.
إثر اندلاع ثورة ما سمي ربيعا عربيا بسوريا مارس 2011 للميلاد، دافع صاحب كتاب "الجهاد في الإسلام" في عدد من تصريحاته المذاعة والرسمية عن النظام "المستبد" حيث أقر حينها كونه يواجه مؤامرة خارجية بحسبه تقودها إسرائيل، و الأكثر بذلك إشادته بعمل الجيش النظامي حينها. وكان رحمه الله معارضا لاستعمال العنف للتغيير، وهذا ولا ريب من مبادئ رجال الدعوة، ولعله من أبرز رموزها، والرفق وحقن الدماء نهج القادة الفاتحين والأئمة المجددين على مر التاريخ.
لكن المثير والداعي للتريث والتعقل قبل كل شيء أن يَصدُر مثل هذا الموقف المناهض للثورة ضد الظلم المؤيد للنظام الحاكم ـ المستبد ـ من رجل عالم بهذا القدر، أغنى ولا شك المكتبة العربية والإسلامية بما لا يقل عن ستين مؤلفا وأي مُؤَلف معالجا فيها قضايا علوم الشريعة والفلسفة والاجتماع والآداب، ومشكلات العصر وغيرها، كما أغنى المكتبة المرئية بشروحات ودروس
منبرية وبرامج دينية إسلامية ستظل ناصرة لدعوة الله ورافعة لشأن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مادام هذا الإنسان المكرم من عند الله يَدِب على وجه البسيطة.
وما أثارته مواقف الرجل اللحظية من موضوع الحرب العنكبوتية الخيوط بسوريا الحبيبة، جعل البعض يصدر أحكاما يصح نعتها بالمتسرعة في حق الرجل بلغت الإخراج من الملة كما أشرنا، والآخر ينقلها جاهزة دون تفحص، وغيرهم ألزمته صدمةُ الموقف الصمتَ الأَخْرَصي، أو صمتا بباعث الحكمة. وهنا تضاربت أحكام وآراء في الموقف الاستثنائي للرجل رحمه الله. ولا شك أنه بعد مدة تعدت نصف العقد منذ بداية الحرب المذكورة وما آلت إليه أوضاع البلاد و هلها من دمار وشتات، وما اتضح من تآمر لقوى الباطل ضد الإنسان وكرامة الإنسان ومن إِلْباس للباطل الشرس جلبابَ وعمامة الحق، لا شك أن الغبار شيئا فشيئا سينجلي مع مر الأيام لتعلوَ مكانة الرجل العالم الشهيد بعدما عرجت روحه لباريها، و أمانينا أن تُشمل بغفران الرحيم وتجاوز العليم سبحانه لتكون بجوار سيد الخلق وبقية الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
فمن يخالفنا القول أن عالمنا الجليل محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله كان يرى من على منبره بالمسجد الكبير بدمشق وبفراسة المؤمن الصالح، أن مستقبل سوريا لن يكون لصالح سوريا ولا لصالح المسلمين والعرب قاطبة، إذا ما فتح الثوار حينها باب نار النظام الأسدي الشرس الذي قد لا يخبر شراسته وحقيقته إلا مثل هذا العالم العامل؟، بغض النظر عن شراسة الذئاب الجياع المنتظرة للحظة الانقضاض والمستعدة للقفز من بعيد. خاصة وأن ثورة 2011 أصلها ولادة بلا مخاض، مما جعلها مدرسة أخرى يضيفها التاريخ زمن رعونة حكومات العرب والمسلمين إلى سابقاتها لعل الأمة المتكالَب عليها تصحو، ولا شك في ذلك وهي الموعودة بالنصر والتمكين بالنص القدسي الكريم (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) القصص، الآية 5.
قال الشيخ الموريتاني الددو في أحد تدويناته » كان كثير من العلماء يقولون: إن من أكل مرقة السلطان احترق لسانه عن قول الحق « إلا أن العالم الجليل سعيد رمضان البوطي حسب ما يرى متريث متعقل أنه أكل مرقة السلطان وخطب وحاضر وعلم الأجيال في بيت السلطان وصدع بالحق ظاهرا للناس خادما لمصلحة السلطان (الطاغية)، فأحرقه حسب ما ترجح أعوان السلطان فوق سدة منبره، رغم كونه عارض الثورة وعارض كل من ساندها لحكمة كان يعلمها بعد الله سبحانه، فنال الشهادة ولا ريب. وقد يصدق قائل القول أن الثورة التي عارضها بشكلها ومضمونها هذا العالم الفذ الذي اشتغل بعلمه وحزمه على تحرير الأمة من براثن الجهل الخفي لو تأخر ميلادها حيث لم تكتمل الشروط حينها لكان أبناء المدرسة البوطية قادتها إلى سبيل النجاح ضد الظلم والفساد والاستبداد، وخدمة لمشروع النصر والتمكين بكل توفيق و سداد.
رغم أن الذين قالوا في حق الرجل كلمتهم اللحظية كما أشرنا، منهم علماءَ أفذاذ لهم بسطة في العلم ومكانة بين العلماء، و منهم من سكت عن الموقف اللحظي الحساس للرجل، كما للتاريخ والزمن كلمته، فقد يرى ـ متريث ومتعقل وما هو بالمؤهل لتقويم الرجال ـ أن المرحوم الدكتور سعيد رمضان البوطي الدمشقي ـ وأهل دمشق أدرى بشعابها ـ كان على صواب حين عارض اندلاع الثورة بالطريقة التي انطلقت بها، وزمن اندلاعها، و مَن خلف ستارها، و كأنه يرى مستقبل السوريين رأي العين شتاتا بين الأمم، وربما عِلْمه بشراسة نظام بلاده ـ و هو الخبير بمكره و خِداعه ـ الدافع لذلك، وقد جانب الصواب حين دعم ومجد وساند وما عاتب حيث العتاب واجب.
و على تقاطع تصويب ذالك المتريث المتعقل والصواب خُط درس بليغ، سيحفظه التاريخ لأجيال ما بين التكَالُبِ والتمكِين للنقاش و التحليل بمزيد من التدقيق والتفصيل عنوانه ‘’الدرس البوطي’’.
مراد المغربي
مشاطرة
فعلا استاذ عبد العزيز أشاطرك الرأي في هذا الموضوع الذي همني مرات و مرات، فعلا أجبت عن سؤال لدي.