هشام الدركاوي
أجساد هزيلة خط عليها الزمن قساوته، وأصوات مبحوحة وقلوب محتقنة يعتصرها الألم، وعيون تبكي بأربعة سجام حسرةً على الزمن الضائع، وبحث سيزيفي محموم عن لقمة عيش مرة في أرذل العمر، ووطنية عالية عزَّت في زماننا الذي يطفح بالانتهازية وعقدة الأنانية...
هذه هي سيمياء المحاربين المغاربة القدامى الذين أفنوا زهرة شبابهم مرابطين في تخوم الصحراء وحدودها، في منأى عن رغد العيش ودعة الحياة؛ ذبا عن حمى الوطن وخوضا لأشرس المعارك وتسطيرا للبطولات دونما رهبة من الموت أو رغبة في إغراء الماديات والطمع في ملذاتها أو تحين الفرص لتحقيق المصالح الشخصية؛ ما دامت مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. وهم آنئذ في ميعة شبابهم ونزقه؛ لم تغرهم المناصب ولم يغويهم حلم الهجرة ولم يتسلل الجشع إلى قلوبهم، بقدر ما كان نداء الوطن يصدح عاليا فيأعماقهم وكانت الوطنية حافزهم وقيمة قيمهم؛ في نكران تام للذات، ذاتٍ ستحس تلاشيها ودونيتها مستقبلا عندما سيتنكر لهم من يسوسون الوطن، وليس الوطن؛ لأن هذا الأخير ممثلا في الذاكرة والمشترك والتاريخ والأرض ما زال شاهدا على شجاعتهم ونبلهم ووطنيتهم، وسيُرمى بهم في مهاوى الإهمال وغياب ثقافة الاعتراف، وسيُجازون مقابل وطنيتهم الزائدة بمعاشات هزيلة، وسيدير عنهم مسؤولونا وجوههم ليُتركوا نهبا للضياع وحياة المهانة بعدما ظنوا واهمين أو حالمين أنه سيُحتفى بهم وسينعمون بالراحة والدعة ماديا واجتماعيا؛ عوضا عما عاشوه من هول الحروب وشظف المعيش والبعد عن الأهل وفراق الأحبة. ليجدوا أنفسهم أمام حرب أكثر شراسة سيخوضونها هذه المرة ضد قساوة الحياة؛ بحثا عن لقمة عيش حارة (كما هو في تعبيرنا الدارج) ستُضاعف من أزمتهم وتعمق جراحهم؛ حيث إنك كلما يممت وجهك تجد محاربينا القدامى، رغم تقدمهم في السن، يمتهنون مهنا وضيعة وبحس التفاني الذي كانوا عليه فيما مضى من الزمن البروستي، وبقناعة عز نظيرها؛ بغية الظفر من غنيمة الحياة ولو بدريهمات قليلة تضمن لهم البقاء على أرض لا تؤمن إلا بالقوي؛ بل الأمرُّ من ذلك أن تجد كثيرا من هؤلاء الأشاوس يلجأ للتسول أمام مرأى ومسمع مسؤولينا بسبب من مشاكل صحية حالت دون امتهان تلك المهن الوضيعة، لينطبق عليهم المثل العربي القديم " جوزي جزاء سنمار". ذلك أنهم لما اعتقدوا أنهم حالما ينهون واجبهم الوطني سينعمون فيما تبقى لهم من أيام قلائل بحياة الراحة والنعيم، وسيحظون بالاعتراف؛ يجدون أنفسهم قد خرجوا من جهاد أصغر إلى جهاد أكبر وأكثر عنفا في مواجهة قساوة الحياة وقساوة قلوب المسؤولين,
ففي الوقت الذي كان فيه محاربونا يدافعون عن الوحدة الترابية للوطن الغالي، كان بعض مسؤولينا يفكرون في طريقة توزيع الوطن بينهم ونهب خيراته، وفي الوقت الذي يحتفي فيه إعلامنا بثقافة الرداءة وتكريم بعض أشباه الفنانين، كان من الأجدر تسليط الضوء على حياة هؤلاء المحاربين والاعتراف بهم، ولو بطريقة رمزية، حتى يكونوا قدوة للأجيال في تعلم دروس الوطنية ونكران الذات وخدمة الصالح العام، عوض أن يقتدوا بمن صارت تنعتهم وسائل الإعلام بالنجوم والأهرامات التي لم تنتج سوى أجيال مروَّضة ومستلبة، وعوض أن يمتهن قدماء محاربينا في آخر أيامهم كل صنوف المهن الشاقة والدونية الحاطة من كرامتهم، كان من الأجدر أن يحظوا على غرار خدام الدولة بمعاشات محترمة ومؤذونيات وامتيازات؛ لأنهم الأحق بها دون سواهم.
محمد
تنويه
دمت لنا عنوانا للدفاع عن حق من لا حق له في دولة الحق والقانون، مزيدا من العطاء وبالتوفيق إن شاء الله