ميراني الناجي
المحكوم عليه ليس مجرما ، ولا قاتلا ، ولا ذئبا منفردا ، لم يتمرد على سلطان ، ولا على حاكم ، وإنما تمرد على تقاليد التفكير الجامد ، رافضا أن يكون صنما للتراث ، أو محافظا عاما على الصك العقاري للموروث ، لبس جبة الأزهر ، وسما بتفكيره نحو بؤر المحظور وهالة المقدس حاملا سؤال العقل المعاصر ..
هو شاب مشاكس عنيد ، عاشق للتجديد ، رافض للتقليد ، مؤسس " حركة أزهريون من أجل الدولة المدنية " ، لقَّبه الخصوم بـ " ميزو " استهزاء بمواقفه الشجاعة ..
فمن هو " ميزو " إذن ؟ ..
نـــقـــطـــة نـــظـــام :
يحدثنا الرجل عن نفسه قائلا ، " أنا إنسان جئت من الميدان ، جئت من على الرصيف ، نموذجي هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ، الصحابي الثائر محام الفقراء ، قضيتي هي تحرير الإنسان ، ورسم البسمة على وجوه البائسين ، وتحريرهم من الذل ، والقهر ، والتبعية " ..
وللرجل أيضا حلم كباقي أبناء الوطن العربي المقهور ، لكنه حلم يخرج من عباءة رجل دين بطعم خاص ، " أنا أحلم بمجتمع فيه عدالة اجتماعية لكل البشر ، أحلم بتحرير الناس من ثقافة القطيع ، واستغلال رجال الدين للجماهير ، شعاري أن الله سبحانه وتعالى كتب على بابه الوسطاء يمتنعون ، فوقف رجال الدين على باب الله يرفعون شعار
لا إلاه بلا وسيط ، فترك الجماهير الله فذهبوا إلى رجال الدين ، فهؤلاء قمعوهم باسم الدين ، وباسم السياسة وخدمة الحاكم وُضَعت أحاديث .. " ..
شذرات بيانية ، مقتضبة ، ومرتجلة من خلال مقابلاته مع مختلف المحطات الإعلامية المصرية والعربية راكمت عداء للرجل ، وهو الشيخ الأزهري ، المتأمل الشهم ، القارئ النهم ، والفقير المعطّل ، كفَّرَهُ البعض ، وغدا متنابزا به من خلال حرب سيكولوجية قذرة ، وساخرة ، متسمة بنوع من السادية ، لكن الرجل بحسه الماكر يترفع عن الاستدراج في لعبة التنابز اللفظي التي يتقنها خصومه ، مشفقا على المناوئين لحرية التفكير والتعبير ، معتبرا أن مكر الصفة التي تستهدف شخصه هي نوع من الهزيمة لصُنَّاع الوهم باسم التراث والدين ، فاتحا صدره لكل الانتقادات ، ولكل مفردات الشتيمة بابتسامة ساخرة ، وباحتيال وذكاء يعطي لصفة " الميزو " القدحية معنى الرجل القادر على
" التمييز " بين الخطل والصواب من داخل المعارك الفكرية للتراث الفقهي الإسلامي بدون هوادة ..
أوهـــام الـــتـــراث :
التراث من منظور الرجل ليس دوما منبع الحقيقة ، وإنما الشطر التنويري فيه هو المدخل المحدد لذلك على اعتبار الحاضر شهادة الحياة ، والماضي صك الوفاة ، والماضي
لا يفسر الحاضر ، بل الحاضر يمكنه ذلك إذا تحرر من عبوديته وأوهامه ..
فبأي حق يُحاكم الرجل من أجل منهجه في التفكير ؟ ..
ألأنه شك في بعض الأحاديث المنسوبة للرسول ، وقايسها بالواقعية والعقل والمنطق ؟ ..
فهل كل ما جمعه البخاري من روايات عن النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال وأقوال صحيحة ، وهو نفسه يقر بأنه وجد الآلاف منها دخيلا ، ومحرفا ، ومدسوسا في السيرة النبوية ؟ ..
بمعنى ما من المعاني ، ألا يعتبر ما جمعه هو الآخر في
" صحيحه " قابلا للنظر لعدة اعتبارات مهمة تكمن في كون الرجل وُلِد في بخارى بأسيا الوسطى غرب جمهورية أوزبكستان الحالية بفارق قرنين تقريبا من الزمن عن بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ، وهو الشيخ الذي عُرِفَ عنه بأنه لا يعرف اللغة العربية ، ولم يعاصر النبي ، ولم يكن لا من صحابته ، ولا من أترابه ، بل جمع فقط ما بدفة متنه عن طريق الرواية الشفوية من وقائع ، وروايات يفصله عنها زمن بعيد يقدر بمئتين سنة على وجه التقريب
والمشكلة هنا لا تقف عند الزمن أو عند غياب النص المدوَّن أو ما يطلق عليه في المناهج بالسيطرة النصية ، وإنما في اعتبار المتن النبوي تحكمه عوامل الجغرافيا والتاريخ ، وعلم الاجتماع ، والأنثروبولوجيا ، واللغة ، والأدب ، وكل هذه العلوم والمناهج مجتمعة أو متفرقة ،
هل كان البخاري يمتلكها ، وهل كان عصره يتوفر عليها مقارنة مع التطور العلمي الحاصل الآن ؟ ..
وفوق كل هذا وذاك ، فالبخاري لم يجد أمامه نصوصا مكتوبة يخضعها لمنهجية المقارنة والتحقيق ، ورغم الجهد الذي بذله مشكورا ، فإنه لم يخلف هو الآخر مخطوطا بخط يده يحسم في الخلاف الدائر حاليا في صلب تراث الجماعة والسنة بقدر ما نقل بعض أساطير التلمود اليهودي إلى أحاديث الرسول حتى أضحينا أمام شخصية خرافية ، أي متخيلة ، كاذبة ، كتبها البخاري وغيره من أئمة السلف عكس الشخصية الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم كما جاءت في القرآن الكريم ، وكما ذكرها رب العزة ونحن نؤمن بها على حد قول المفكر الإسلامي أحمد صبحي منصور أستاذ سابق بجامعة الأزهر ..
فهل يستسيغ عقل المسلم إذن ما رواه البخاري من حديث صادم ومرعب نُسب للرسول صلى الله عليه وسلم ، ( لقد جئتكم بالذبح ) ، وهو الذي اصطفاه الله بقوله ، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء 107) ، ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ( القلم 4 ) ؟ ..
وهل يقبل العقل بما ورد في صحيح البخاري على لسان أشرف الخلق ، وأكثرهم رحمة بالعالمين ، ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى ) ؟ ..
ورغم الحروب اللغوية بين الفرق في التعريف بين فعل
" قتل " و" قاتل " ، ومحاولة البعض إيجاد مخرج لهذا المأزق عن طريق اللغة فإن البعض الآخر ، ومن بينهم الشيخ محمد عبد الله نصر ، يتساءل ، كيف يستقيم منطوق هذا الحديث مع قيم القرآن الجميلة وآياته الكريمة ، ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) ( البقرة 256 ) ؟
فالله هنا يدعو رسوله والمسلمين ، بأسلوب مدني وحضاري جد متقدم ، بأن لا يكرهوا أحدا على دخول الإسلام سواء بالسيف أو القتال ، ومن هنا تصبح الروايات السالفة الذكر مهزوزة الأركان أمام قوله تعالى ، ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة 9 ) ..
وهل يقبل المسلم ، أيضا ، مثل هذه الرواية المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم ، ( بعثت بين يدي الساعة مع السيف ، وجعل رزقي في ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالفني ) ؟ ..
هذه الأحاديث التي تُدَرَّس بالمؤسسة الدينية التقليدية بمصر هي مربط الفرس التي يرفضها الشيخ ميزو رفضا قاطعا لأنها تسيء للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتصوره على نموذج القاتل المتعطش للدم ( بعثت بين يدي الساعة مع السيف ) ، عدوانيا يعيش على الغزوات والغنائم ، ( وجعل رزقي في ظل رمحي ) ، مذلا لكل من يخالفه الرأي ( وجعل الذل والصغار على من خالفني ) ، كل هذه المشاهد العنيفة بعيدة كل البعد عن طبائع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشيمه وأخلاقه الحميدة ، وأن النبي منزه عن ذلك ، فالنبي قدوة لامحالة ، ومثل هذا الأحاديث المدسوسة في المناهج التعليمية بالأزهر تسيء للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتزعزع صورته في أذهان المسلمين ، وتؤثر على طلاب العلم سلبا ، وتجعلهم مهيئين للاقتداء بمنطوقه اللفظي مع التحريض على الكراهية والقتل ، وصناعة جيل من الذئاب المنفردة والخلايا الجماعية الإرهابية باسم الجهاد والدين ..
هذه الأحاديث مقارنة مع سلوك أشرف الخلق والمرسلين ، تبدو أنها منسوبة لرسول اصطفاه الله تعالى ، وتتعارض مع منظومة القرآن الكريم ، ومع الأحاديث القدسية جملة وتفصيلا ، ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وفي حديث آخر ( وإنما بعثت معلِّما ) ، وكلمة معلم مشتقة من العلم ،
فالرسول " معلم " البشرية بدون منازع ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وليس محاربا شرسا يقتات من غزوات السيف وغنائم الرماح ، بعثه الخالق لنشر قيم التسامح والأخلاق مصداقا لقوله تعالى ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
( آل عمران 159 ) ..
هذه هي صورة نبينا العظيم التي رسمها القرآن الكريم ، والتي شدت العالم بأكمله ، وجعلته منبهرا أمام شخص الرسول وأخلاقه ، رسول طيب كريم ، عفو حليم ، عطوف رحيم ، ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر )
( الغاشية 21-22 ) ..
الرسالة المحمدية التي حملها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم هنا واضحة ، تسير في نفس النسق والسياق ، معارضة للروايات البخارية السالفة الذكر ، ( لكم دينكم ولي دين ) ( الكافرون 6 ) ، و ( لا إكراه في الدين ) ( البقرة 256 ) ، ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( الكهف 29 ) ، الرسول إذن لم يبعث لنشر ثقافة العدوان ، والبلطجية ، والحروب ، وإنما بعث لنشر الرحمة والاختلاف والمحبة والسلام ..
الـــنـــزعـــة الـــقـــرآنـــيـــة :
ميزو ليس قرآنيا ، ولا ناكرا للسنة جملة وتفصيلا ، وإنما يدعو إلى تنقيتها من الشوائب المدسوسة فيها مستندا على منهج علمي يستحضر العقل والمنطق مع مقارنة المشكوك فيها بالسنة والقرآن ، فكل رواية عارضت منطوق التنزيل ، وخالفت السيرة النبوية قولا وفعلا مرفوضة لأنها فعل من أفعال الإنسان ، والإنسان كائن خطَّاء بالفطرة ، لكن المشكلة أن هناك تيارا متشددا من السلفيين السنيين قمع العقل ، وسمح للبخاري وحده بفعل ذلك وحرَّمه على باقي المسلمين ، وجعل من كتابه قرآنا ثانيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ورفعه في مراتب القداسة رغم بؤر الارتياب الموجودة بين ظلاله ، فكيف نفسر قول عائشة رضي الله عنها ، ( لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها ) ..
إن " قصة الداجن " هنا أو ما يطلق عليها بـ " حديث المعزة " التي أكلت آية من القرآن قد يهز أركان الإسلام ، ويحدث تشويشا في عقول المسلمين ، ويصبح الذهن شاردا أمام الآية التالية ، ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر 9 ) ..
تنافر ملحوظ بين " الذكر المحفوظ " وبين " المعزة " التي ابتلعت الآية في سياق وتوقيت حرج ، فضاعت من القرآن آية ( رجم الشيخ والشيخة ) ، و ( رضاعة الكبير ) ..
ســـراب الـــمـــفــهـــوم وظـــلالـــه :
قد ننساق وراء ظاهر اللفظ أحيانا ، فيغدو اللفظ قناعا
مضللا ، وهو ما انتبه إليه هنا معتقل الرأي الديني محمد عبد الله نصر بالدليل وِالحِجَاج مفسرا الآية في السياق العام للقرآن الكريم بمعنى مغاير ، ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما جزاء بما كسبا نكالا من الله .. ) ( المائدة 38 ) ..
فقطع اليدين هنا يرفضه الرجل رفضا قاطعا ، لأن الإسلام جاء ليبني دولة الإنسان ، لا دولة العاهات ، والمقصود بالقطع هنا ليس البتر ، وكل من يقول بذلك فهو خاطئ ، فلغة القرآن واضحة منطوقا وسياقا ، والقرآن يفسر نفسه بنفسه بتعبير الفقهاء ، والآية التالية تسعفنا أكثر في فهم هذا المغزى، (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) ( يوسف 31 ) ..
فهل حقا كل نساء امرأة العزيز قد ( قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) بصيغة البتر ؟ ..
اجتهاد أقلق شيوخ الأزهر ، وأزعج القضاء وحكام مصر ، لكن الموضوعية تقتضي إنصاف الرجل لأنه أصاب حين فسّر الآية بآية أخرى ، أي فسّر الآية من داخل القرآن نفسه وليس من خارجه ، وأعطى الدليل على أن الإسلام
لا يروم إلى تأسيس مجتمع الأشقياء والمعاقين ، أي أن القرآن أُنْزِل لإسعاد المجتمع لا لشقائه ، ( مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ) ( طه 2 ) ، وحتى الدول العربية والإسلامية في تشريعاتها لا تحكم بقطع يد السارق باستثناء بعض الغلاة الذين أساؤوا فهم منطوق الآية الكريمة ، لكن مع كامل الآسف أن القضاء المصري سيَّس الجدل من خلال سلب حرية الشيخ ، وأضاف إليها عقوبة رمزية أشد قساوة وخطورة بثرت يد الرجل كي لا يكتب ، وقطعت لسانه كي
لا يتكلم ، وغيَّبَته في سجون الاستبداد الديني الرهيب سالبة منه حريته الفطرية في التعبير والتفكير ..
إن خلفية هذه العقوبة المرعبة في الحقيقة ليست دفاعا عن الشريعة الإسلامية ، وواقع مصر المعاصرة يُكَذِّبُ ذلك ، وإنما خلفيتها هي الإحساس بالخوف من الوعي المركّب والعقل الهدَّام ، ومن ضياع امتيازات المنصب ، فالرجل دعا إلى تأسيس الحركة الأزهرية من أجل الدولة المدنية ، فهو إذن ضد الدولة الدينية ، ودعوته لتأسيس الدولة المدنية معناها إلغاء دولة العسكر ، وأخونة الدولة ودعشنتها ، وهنا يكمن مغزى الصراع بين تيار العقل والتجديد ، وتيار المحافظة والتقليد ، الذي جيشت له الدولة المصرية كل القوى الظلامية ومؤسساتها دفاعا عن مصالحها ومصالح دولة الفقهاء بزي مدني مزيف ، فالمواكب لتفكير الرجل سيلاحظ شجاعته المثيرة في التصريح بإلغاء دار الإفتاء ، لأن هذه المهمة من اختصاص الإله وحده وليست من اختصاص البشر ، فالله لم يفوضها حتى لنبيه عليه الصلاة والسلام ، والآيات التالية توضح ذلك ، ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) النساء 176 ) ، ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) ( النساء 127 ) ، ( قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيان ) (يوسف 41 ) ، ( ولا تستفت فيهم منم أحدا ) (الكهف 22 ) ..
فالله إذن وحده المفتي فقط ، وهو دار الإفتاء ، وهنا تكمن الحكمة الإلهية في عدم ترك الفتاوى للبشر مخافة انتشار الفتنة ، وتحليل وتحريم أمور الدنيا حسب أهواء البشر ونوازعهم السياسية والإيديولوجية ، فالفتوى من اختصاص السماء لا الأرض ، وكل من يزايد على ذلك فقد تطاول على حقوق الله ، وقد لام ميزو أيضا مناهج الأزهر وطالب بإعادة النظر فيها لأنها لا تنتج إلا الجمود والإرهاب والتخلف والخراب ، مستدلا في ذلك بما جاء في كتاب
" الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع " ، داعيا إلى تسريح جحافل الأميين من الذين يسمون أنفسهم بعلماء الأزهر ، الراكبين على صروح العقيدة والدين ، المُنوِّمين للشعوب ، والمستنزفين لميزانية وثروات الدولة ، فلا توجد في الدين وظيفة ، فالوظيفة اختراع بشري ظهرت مع ظهور الدولة المدنية ، لكن اقتسام الثروة والمصالح وتبادل الأدوار هو ما جعل الدولة الشمولية تدافع عن رجال الدين ، وجعل هؤلاء أنفسهم يدافعون عن الدولة المستبدة ويبررون وجودها في إطار تحالف تُيوقراطي متبادل ..
من هذا المنعطف يتساءل الشيخ ميزو عن من أعطى لهؤلاء توكيلا للنيابة عن الله ، وعن التراث والدين ، أوليس العقل هبة ربانية وزعها الله على خلقه بالعدل والمساواة ؟ ..
ألم يرتق الإسلام الأصلي بالإنسان ، وبالعقل ، في مراتب السيادة والسمو ، ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) ( الإسراء 70 ) ..
الإنسان إذن كائن مفكر بالفطرة فضله الله على العالمين بالعقل ، وكل من يسعى إلى التحجير عليه ومحاربته فهو من أشر الدواب مصداقا لقوله تعالى ، ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) ( الأنفال 22 ) ..
ألم يحسم شيخ العقلانيين في القرن 17 بأن " العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس " ؟ ..
كل شيء إذن يسير وفق سيادة العقل باعتباره المقياس الوحيد لقياس نبض الحقيقة والمعرفة ، وكل أصناف التفكير تخضع لسلطته وسلطانه ، فالعقل هو البيان ، والبرهان ، والعرفان ، الذي تنحني أمامه سنابل الحقيقة ، وما صرخة بروتاغوراس السفسطائي في هذا الإطار ،
( الإنسان مقياس كل شيء ) إلا تكريسا لعبقرية الإنسان لكونه الفرد القادر على التفكير ، فالعقل هو المعيار الوحيد للمقايسة ، فما تناسب مع المنطق والعقل فهو الصحيح ، وما تنافى معه فهو غير ذلك ..
من هذه الزاوية طرح الشيخ ميزو صحيح البخاري للمساءلة بخصوص الأحاديث التي تتعارض مع القرآن والسنة ، ودعا المسلمين لاستخدام عقولهم من زاوية العصر الذي يعيشون فيه ، فكيف نضحي بحاضرنا من أجل ماض مات وولى ، كيف نضحي بالعقل ونتخلى عنه من أجل ماض لو عاش حاضرنا لكان له شأن آخر ؟ ..
ثم كيف نرضى باحتلال حاضرنا من طرف " عقل " أجدادنا وماضيهم الديكتاتور ؟ ، وهل يستسيغ جيل الثورات التكنولوجية احتلال عصرهم المتطور من طرف عصر الخيمة ، والناقة ، والقنديل ؟ ..
أمازلنا في وطننا العربي نخشى التفكير ، هل ما زال النقد يخيفنا لدرجة التضحية بالعقل دفاعا على كراسي الجهل ، والثراء ، والتوريث ؟ ..
كيف نتقبل مجتمعا يعيش بلا عقل ، يقتات مما تركه السابقون من رفات التاريخ البعيد ؟ ..
كيف نرضى لأنفسنا بالغباء ، ونلقن أطفالنا تعليما فاسدا يعتمد على شيوخ العنعنة ؟ ..
الأوائل عاشوا زمنهم واقعيا ، ونحن نجتره كالبعير والأنعام
نعيش زمنا انتهت صلاحيته التاريخية ، ونحتمي بأوهام خيوط العنكبوت والخالق وصف بيت العنكبوت بأوهن البيوت ..
حاضرنا يعيش شقاء مزدوجا ، يعيش نظريا ما عاشه الغرب واقعيا بتعبير عبد الله العروي ، ويعيش وهما شقيا مع عاشه النبي وصحابته ماضويا ، فلا الغرب أدركناه ، ولا الماضي بعثناه ..
ذلك هو حالنا العربي المتردي منذ قرون خلت من الانحطاط والجمود ، واقع تحول فيه الماضي مقدسا ، وغدا العقل العربي شيخا مكبلا بمذلة التقاليد والقيود ، شقيا يناجي عزلته التاريخية بعبادة الأفكار البالية التي حولها إلى أصنام وهكذا قَتَلْنا الحاضر ، وقتلتنا التقاليد ، ونحن لا ندري أن التمسك بالتقاليد معناه أننا حكمنا على أنفسنا بالموت ونحن أحياء على حد تعبير بن خلدون ..
على العقل العربي والإسلامي إذن أن يصحو من بياته ، ويرفض أشكال الاحتلال الفكري من طرف ورثة الموتى والمقابر ، فالحاضر محتل ، والعقل مختّل ، والإرادة مغيّبة
علينا أن نعيد النظر في كثير من المسلمات والحقائق ، وأن نسائل كل اليقينيات تحت طائلة الارتياب ، فهل كل ما نعيشه اليوم هو الحقيقة أم أن الحقيقة عبارة عن أوهام نسينا أنها كذلك ، وهل حقا أن الحقيقة تقتل ذاتها عندما تكتشف أنها كانت ضحية الوهم ، على حد تعبير نيتشه ، مثلما تقتل النار ذاتها وتأكل القطة أطفالها ؟ ..
الوهم بصيغة أخرى هو صناعة التنويم الإيديولوجي ، وجل
ما نعيشه اليوم على مستوى التراث مجرد أوهام ساهمت في ترسيخها التنشئة الاجتماعية والتربية والثقافة ، فالحقيقة صراع أبدي لا تتحقق إلا عن طريق بناء مجتمعات الحرية ، وإن لم نحسم ، مع مارتن هيدغر ، بأنها هي الحرية نفسها ..
على هذا المنوال أدرك محمد عبد الله نصر أهمية الحرية التي ضحى من أجلها ، فتشكلت رؤيته في متن الموروث ، ومن صدمة المعنى إلى لذة المبنى أبحر في موروث الإسناد فاصلا بين الرواية والدراية ، واضعا ركام التراث الإسلامي كله على محك القراءة والنقد ..