سعيد لكراين
من الظواهر القديمة الجديدة التي ابتلي بها الناس قديما و حديثا الرياء و السمعة و حب الظهور و التعالي على الناس و اذلالهم و الاستمتاع بمعاناتهم و التلذذ باحتياج الغير الى ما تحت أيديهم. و قد كان لها تمظهر في كل زمن و في كل مكان و بصور و اشكال و تحت مسميات مختلفة ابدعتها النفوس المريضة و تفننت فيها.و ما يورثه من قسوة القلوب و قتل للضمير.
و يحتفظ القرآن بصورة من صوره مثلها قارون على قومه،
قال تعالى على لسان قارون في سورة القصص :
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ )
و لم يقف الامر عند هذا الحد بل كان لابد ان يكتمل المشهد بصورة اكثر وضوحا لفساد العقيدة و سوء الأدب مع الله، و زهو و غرور بالنفس و احتقار للغير.
قال تعالى:
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)
و هو ما أشبه الأمس باليوم عندما يحشد الناس كل مظاهر الزينة في الأعراس و المناسبات بل و حتى مجالس العزاء و حتى الطلاق أصبح موعدا للاحتفال. و على شكل زينة قارون، أخذ الناس ينافسون في هذا بكل تكلف و مباهات بالحلال و الحرام و المباح و المنكر...و الناس من حولهم من الذين لا حول لهم و لا قوة يتجرعون مرارة الحرمان و قلة ذات اليد و ضغط المظاهر الاجتماعية الزائفة و المبالغ فيها فتنة عند كثير من الناس الا من رحم ربي، ليصورهم القران بقوله:
(قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ).
و لان مصدرها واحد و غايتها واحدة فقد جاءت كل الشرائع الدينية محرمة لمثل هذا لانه مفسدة اعتقاد و عمل و سلوك.
و لان الكبرياء و العظمة لله وحده عز و جل،
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار) رواه مسلم.
و من اشكالها و تجلياتها المتعددة و صورها المذلة في وقتنا الحاضر، حشر الناس في صفوف و طوابير من ذوي الحاجة لساعات طوال في انتظار ان يحضر فلان او علان، ليس هذا فحسب بل امعان اذلالهم بالتصوير و نشر ذلك على المجلات و وسائط التواصل الاجتماعي كمادة اعلامية الغرض منها السمعة و الرياء و المباهات.
و تنشط وثير هذه المذلة إبان الحملات الانتخابية لاستجداء اصوات الناخبين حيث توزع اكياس الدقيق و (قوالب)السكر و بضع لترات من زيت...
و معه تكثر حفلات (المرقة) و توزيع (الزرقة) و تزيد نعرة العداوات العنصرية و القبلية و غيرها من بقايا الجاهلية....
فتخرج الصدقة عن مقصدها الاساس في حفظ الكرامة الإنسانية و تطيب و جبر الخواطر و الإحساس بالفقراء.و رحمة المساكين. و التنافس في ابتغاء الاجر. ( و في ذلك فليتنافس المتنافسون).
و قد كان لعظم الصدقة سواء الطوعية او المستحقة (الزكاة) و الانفاق في سبيل الله، لما يحققه من أهداف و ما تعلق بها من مسائل جعلتها ترتقي الى منزلة العبادة الا دليل على عناية الشرع بها كسبيل من سبل السعادة في الدنيا و الفوز في الآخرة.
و للصدقة اثر في اصلاح النفوس و تعويدها على البدل و العطاء بدون مقابل كعلاج فعال ضد مايصيب النفوس من امراض كالبخل و الشح.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، - وذكر منهم - ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما تنفق يمينه " متفق عليه.
و هو مبالغة في إخفاء الصدقات حتى لا تعلم و تبقى مخفية مستترة عن الرياء و السمعة طلبا للقبول عند الله سبحانه وتعالى.
و في سيادة التكبر و التعالي عن الناس و ادعاء الاستغناء عن الحاجة اليهم، و خصوصا ذوي السلطان و النفوذ و اصحاب الاموال، فساد محقق يلحق المعملات بين الناس ايضا بحيث يصبح مدعاة و سببا لمحق الرضى حيث يحل محله الإجبار و الإكراه. و احتكار السلع و الزيادة الفاحشة في الأسعار، وتزداد معه صور استغلال الاجراء و العمال لفقدان الاحساس بضعفهم و افتقارهم، و تضخم الجشع و الطمع في تحصيل الاموال و تراكم الثروات بمص الدماء و اعتلاء الرقاب.
و تنعدم معه السماحة المطلوبة في البيع و الشراء و القضاء،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى. رواه البخاري و غيره.
و يظهر فسادهما -الكبرياء و العظمة- ايضا في أخلاق الناس لتحل الغلظة محل اللين و الرأفة و الرحمة. فيترتب عليهما السخط و عدم الرضى و الحقد و الحسد...كامراض للنفوس.
فينتج عنها التباغض و التباعد فيصير القوم ممن أصيب بمثل هذا في مهب الريح و تذهب شوكتهم، بتشتت افرادهم و انعدام روح الانتماء و تزول حمية الدفاع عن بعضهم بعضا لانعدام مشترك يجمع بينهم. و كذلك السير نحو الانفلات، و التسيب...
و الرغبة العارمة في (الحريق) و مغادرة الاوطان بكل الوسائل، و ضعف و عدم الشعور بالانتماء