محمد بلعيش
هكذا إذن يراد لنا أن نعيش في هذا الوطن الاستثنائي. أن نعتاد الموت وقسوته، وهو يروي ظمأه الّذي لا ينتهي من نفوس البسطاء والمهمّشين في أجمل بلد في العالم. يراد لأنوفنا أن تعتاد رائحة الدّم وهو يمتزج بشرائح السّمك النيّء، والنّفايات حينا، وبغبار الخبز الأسود حينا آخر، وبموج البحر ورصاص كبير الصّيّادين حينا ثالثا، وبثلوج الجبال حينا رابعا، وبما لم تلتقطه عدسات الهواتف النّقالة، أحيانا أخرى. يراد للمهمّشين أن يصبحوا مادة للكتابة، مادّة لتحديث خواطر الفضاء الأزرق، سمّا زعافا لقتل الضّمير المغربي، الّذي يهتزّ فقط لخصر شكيرا، ونهود هيفاء في موسم الحجّ إلى موازين. يراد للموت أن يوجع ذوي القربى فقط. يراد للسّجن أن يصبح بعبعا. يراد لنا أن نجلس جميعا في المسلخ، وننتظر دورنا دون إزعاج الجزّارين.
اليوم تردّدت كثيرا في الكتابة على غير عادتي. تساءلت ما جدوى أن أكتب، إذا كانت كلّ هذه المسافات تفصلني عن الدّفاع الميداني عمّا أكتبه؟ ولأنّني أعرف في قرارة نفسي أن القلم عندي ليس ترفا، فقد قرّرت أن أستمر في الصّراخ عسى أن تصل الكلمات إلى المسؤولين في مكاتبهم المكيّفة، وغرفهم الدّافئة في العاصمة بعيدا عن صقيع الجبال. عساهم وهم يراجعون أرصدتهم البنكيّة المنتفخة بضرائب البسطاء كلّ شهر، ألّا يتناسوا المهمّشين الّذين يغادرون في عتمه اللّيل إلى الحقول من أجل شظف العيش. عساهم وهم يجلسون إلى موائدهم الفاخرة، ألّا يتناسوا المهمّشين المتحلّقين في العراء حول كؤوس الشّاي والخبز إن وجد. عساهم وهم يوصلون أبناءهم إلى بوّابات البعثات الفرنسيّة والأمريكيّة والبريطانيّة إلخ. ألّا يتناسوا التلاميذ والمدرّسين المهمّشين في الفيافي وقمم الجبال. عساهم وهم ينزلقون تحت البطّانيات الناعمة في اللّيل، ألّا يتناسوا أبناء المهمّشين واصطكاك أسنانهم في الهوامش.
اليوم وأنا أطالع صورة الرّاعي وهو مسجى تحت رحمة الموت الأبيض؛ شعرت بقسوة الوطن على أبنائه، واعتصر الألم قلبي مثلك تماما يا ابن الشعب. في ذلك المكان القصيّ من المغرب العميق، انقض الموت على الرّاعي البسيط، وتلذّذ بساديّة منقطعة النّظير بأنفاسه، أحصى شهيقه وزفيره في عتمة اللّيل. جمّد أطرافه إنشا بعد إنش. رقص على اصطكاك أسنانه حتى التّعب. سخر منه دون أدب " أين شعبك وأين أولوا أمرك أيّها المسكين؟" وعندما شفى غليله استل روحه وعرج بها إلى السّماء.
لم أكن يوما أتخيّل أن مأساة "بائعة الكبريت" الّتي درّست لنا في النصوص المسترسلة، ستتكرّر أمام عينيّ في الواقع المرّ بعد كلّ هذه السّنين. ما أطول احتضارك أيّها الأخ الّذي لم تلده أمّي، وما أقصر رؤانا السّيّاسيّة التي عجزت عن توفير الدّفء لك ولأغنامك في القرن الحادي والعشرين. أنت غيض من فيض، وتفاهاتنا غيض من فيض كذلك. نصرف الملايين على موازين، ومثلها على "شمس الحضارات"، ومثلها على كرة القدم، ومثلها على "حلوى البرلمان"، ومثلها على آلات القتل والثّكنات، ومثلها في الولائم والمؤتمرات التّافهة. بينما نساءنا تلد في الشّوارع، وسجوننا تكتظ بشباب في عمر الورد، وشواطئنا تلفظ ذخر الوطن جثثا مهترئة، ومواصلاتنا المسافر فيها مفقود، والواصل منها مولود، وأقسامنا الدّراسيّة حلبات صراع داميّة، وأحياءنا الشّعبية غابات وارفة الإجرام. ومع ذلك تخرج نخبنا السّيّاسيّة البائسة لتقول بأنّنا أفضل من فرنسا. هل سمعتهم أيّها التّافهون عن راع مات في جبال الألب؟
ستستمرّ التّفاهة في هذا الوطن، إلى أن يعود المثقّف العضوي للقيّام بأدواره الطّليعيّة كما يجب. سيتسمر العبث إلى أن نعيد للمدرّس هيبته وقدسيّته في هذا الوطن. سيتتمر التّافهون في قيادتنا نحو المجهول، بل الوادي السّحيق، حتّى ننجح في التفريق بين العلم والوظيفة. وسننزف إلى أن نتعلّم أن كل المهمّشين هم نحن، ونحن هم مهما بلغت رتبنا، واختلفت ألسنتنا وسحناتنا، وتعدّدت تخصّصاتنا وشواهدنا العلميّة.
آسف أيّها الأخ الّذي لم تلده أمّي فأنا أيضا مسؤول عن موتك هناك تحت جحيم الثّلوج. فما أتفه الشعب والوطن الّذي لا يوفر لمهمّشيه حتى قبسا من النّار.
سكينة
فعلا كتاباتك تلمس القلب والعقل ..... يحزننا فعلا الواقع المغربي الذي نعيش فيه .... مؤسف