اسماعيل الحلوتي
بصرف النظر عما آلت إليه نتائج حملة المقاطعة التي انطلقت في 20 أبريل 2018 واستمرت أزيد من ثلاثة شهور في أجواء صاخبة وساخنة، مستهدفة منتوجات ثلاث شركات كبرى، احتجاجا على الارتفاع المتزايد في أثمان المواد الاستهلاكية، الذي اكتوت بنيرانه جيوب المواطنين في أوساط الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وما عرفته من تجاوب شعبي واسع بفضل ما منحتها منصات التواصل الاجتماعي من زخم، ساعد في توسيع روابط التضامن وإعادة تشكيل الرأي العام الوطني.
وبالرغم مما اكتنف الواقفين وراءها من سرية وغموض، ورافقها من استفزازات بعض المسؤولين وتهديدات حكومية. واعتبارها من لدن محللين سياسييين رسالة نارية ضد زواج المال والسلطة، فإن المثير في الأمر هو أن تحاول جهة ما الركوب على التجربة، واستثمار جذوة الحماس الملتهبة في الصدور، من خلال الدعوة إلى مقاطعة الاستحقاقات الانتخابية القادمة، حفاظا على مصالحها الضيقة، دون الاكتراث بالمصلحة العليا للوطن وأبنائه.
وليس غريبا على المجتمع المغربي أن يتجدد النقاش حول الامتناع عن المشاركة في الانتخابات كلما قربت مواعيدها، من قبل الساخطين على الحكومات المتعاقبة وسياساتها العمومية الفاشلة وغيرهم. فمقابل ما تعتمده السلطات المعنية من وصلات إشهارية في الإذاعة والقنوات التلفزيونية، في تشجيع المواطنين على الانخراط في العملية الانتخابية. تتأسس صفحات مضادة بالفضاء الأزرق، للتأثير على الناخبين وخاصة منهم من فقدوا الثقة بالمؤسسات والمنتخبين، والمشككين في نزاهة الانتخابات ونتائجها، والعمل على إشعارهم بأنها ليست سوى مسرحيات هزيلة متكررة، لا تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية، ولا تغير شيئا من "دار لقمان" من حيث هجانة التحالفات وغياب الكفاءات والإرادة السياسية القوية...
بل الغريب هي الدعوة المبكرة إلى مقاطعة الانتخابات قبل ثلاثة أعوام من نهاية الولاية التشريعية، مما يثير ارتيابا كبيرا حول الأهداف الخفية، خاصة أن هناك مؤشرات تشير إلى أن الجهة الداعية إلى عدم المشاركة الانتخابية، هي نفسها من دأبت على نصب الفخاخ لاصطياد المواطنين في عدة مناسبات، وهي من ساهمت في انطلاق حملة المقاطعة الاقتصادية، ليس بسبب الغلاء الفاحش كما اعتقد الكثيرون، وإنما لتصفية حساباتها مع من تراه سببا رئيسيا في "البلوكاج الحكومي" الذي دام ستة شهور وانتهى بإزاحة "زعيمها البكاي" من تشكيل الحكومة. وهي بكل بساطة الكتائب الإلكترونية للحزب الأغلبي "العدالة والتنمية" بإيعاز منه، بعدما بات مطمئنا إلى كتلة ناخبة قارة بفضل توغله في عمق المجتمع، مستغلا الخطاب الديني والعمل الإحساني المتواصل، ناهيكم عن لغة المظلومية ونظرية المؤامرة، وتوظيف مصطلحات هلامية ك"التماسيح والعفاريت" و"التحكم"، لتبرير إخفاقاته المتوالية، واستفادته من ضعف الأحزاب السياسية في المعارضة والأغلبية، العزوف الانتخابي المتنامي والدور الفعال لإعلامه المنظم. ولا أدل على ذلك أكثر من استيلائه على "عمودية" المدن الكبرى وتصدره نتائج التشريعيات للمرة الثانية على التوالي، بالرغم من خياراته اللاشعبية التي سحقت القدرة الشرائية لغالبية المغاربة.
فالحزب إياه يرى أن كسب رهان قيادة الحكومة للمرة الثالثة، يقتضي تحصين "شعبه الانتخابي" والترويج لانعدام البديل القادر على إحداث التغيير المنشود، التمادي في تمييع المشهد السياسي والدفع بالغاضبين عليه وهم كثر إلى عدم المشاركة في الانتخابات. بعد تآكل مصداقيته وفقدان معظم قيادييه شعبيتهم، جراء انكشاف زيف ادعاءاتهم وازدواجية الخطاب والممارسة لديهم، وتناسل فضائحهم الأخلاقية داخل المغرب وخارجه، والتدبير السيء للشأن العام في الحكومتين السابقة والحالية، حيث اتخذت الأولى بقيادة صاحب المعاش الاستثنائي بتسعة ملايين، قرارات مجحفة نزلت نارا حارقة على قلوب المستضعفين، بإلغاء صندوق المقاصة وتحرير أسعار المحروقات، تجميد الأجور والإجهاز على أهم المكتسبات: الإضراب والتقاعد والوظيفة العمومية... وسير الحكومة الحالية برئاسة العثماني على منوال سابقتها في طحن المواطنين.
نعم نحن نتفهم حجم الإحباط الذي أصاب المواطنين ونفورهم من العمل السياسي والاستحقاقات الانتخابية، ومدى سخطهم واستيائهم من الحكومات المتعاقبة وسياساتها الفاشلة، واكتفاء المسؤولين بالتدبير اليومي للأزمات واعتماد المقاربة الأمنية في مواجهة موجة الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة... دون تجشيم أنفسهم عناء التفكير الجاد في اجتراح حلول ملائمة للمشاكل المطروحة بحدة، وابتكار أساليب قمينة بخلق الثروة والاستجابة لانتظارات الشعب، في تحقيق التنمية والحرية والعدالة الاجتماعية، الحد من نسب الفقر والأمية والبطالة، تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، إصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد والاستبداد، والتوزيع العادل للثروة الوطنية.
بيد أننا نرفض استسلام المواطنين أمام الاستهتار بقضاياهم، تاركين مصير البلاد والأجيال القادمة بين أيدي المتهافتين على المناصب والمكاسب. وندعوهم إلى الوعي بأن الانتخابات هي إحدى آليات تطبيق المبادئ الرئيسية للديمقراطية، التي تستلزم السهر على نزاهتها وشفافيتها، خضوعها للقوانين واتسامها بروح التنافسية، والتصدي لمن يريدون استغلال الدين أو استعمال المال الحرام وشراء الذمم. أما الدعوة إلى المقاطعة، فلن تزيد المفسدين وتجار الدين إلا تجبرا، وأوضاع الناس تدهورا. وتساهم في تكريس الهيمنة على مقدرات الوطن، استشراء الفساد وخنق الحريات والظلم والتهميش والإقصاء وارتفاع نسب الفقر والأمية والبطالة...
فلنتحرر من قيود "العدمية" و"العبودية" حتى نكون فاعلين ومؤثرين حقيقيين في الحياة السياسية، ونتصدى لدعاة مقاطعة الانتخابات من "المأجورين"، عوض التفرج على المهازل السياسية والاكتفاء بالانتقادات غير المجدية من وراء شاشات الحواسيب والهواتف "الذكية"، وأن تبادر الأحزاب السياسية المهلهلة إلى تجديد نخبها ومراجعة طرق اشتغالها، بما يساهم في إعادة إشعاعها واستقطاب المواطنين، وأن تتظافر جهود جميع فعاليات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية والنقابية ووسائل الإعلام... على تعبئة الناخبين وتحسيسهم بضرورة القيام بواجبهم الوطني، والحرص على إعمال العقل في اختيار الكفاءات القادرة على خدمة مصالحهم، وتحقيق حلمهم الكبير في بناء مغرب حر وديمقراطي.