عبد الغني مزوز
كثيرون عبروا عن ذهولهم من ردة الفعل غير المتوقعة من جانب المسلمين اتجاه الفيلم المسيء لمقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم,فقد تم اقتحام سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من بلد ,وتظاهر الملايين في بلدان إسلامية وغير إسلامية-باستثناء مسقط رأسه طبعا-لكن الذي يثير الذهول في واقع الأمر ليست هذه الهبة الشعبية العفوية,لكنه السكوت الطويل من جانب المسلمين على تجاوزات أمريكا بحقهم وبحق مقدساتهم وخيراتهم وأقطارهم,
الذي استنكر أو تحفظ على ردة الفعل من جانب المسلمين والعرب لم يعي بعد أبعاد الربيع العربي الراهن ولا محدداته ودوافعه الحقيقية ,فلا يمكن أن نضع الغليان العربي والإسلامي اتجاه الإساءة إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلا في سياقه الصحيح وهو سياق الانتفاضة العربية الكبرى,لأن الفيلم المسيء ليس سوى الشرارة التي ستشعل لهيب الثورة على النظام الدولي مثلما أشعلت شرارة وفاة البوعزيزي الثورة على النظام المحلي العربي, وكلا النظامان مرتبطان عضويا ووظيفيا لتعزيز وترسيخ حالة التردي الحضاري والخروج من التاريخ الذي عانته الشعوب العربية لعقود طويلة,وهي ألان تحاول بشكل اطرادي التخلص من أسر التبعية المقيتة التي أجمعت كل الدراسات الموضوعية على أنها ضمن العوامل التي قذفت بالعرب خارج سياق الحضارة .وبالتالي فديمومة الثورة وحفاظها على مسارها الصحيح يعني بالضرورة قطع حبال التبعية وإنهاء الوصاية الغربية على الأمة, لأن الثورة في صميمها هي ثورة ضد التخلف والتخلف مفهوم جامع يحوي في طياته كل معاني الانحدار والهبوط, التي من شأنها أن تعتري مناحي الحياة الإنسانية فتعيقها عن التنمية والتقدم ( التخلف الحضاري ،التخلف القيمي , التخلف السياسي,التخلف الاقتصادي, التخلف العلمي ,التخلف السياسي..) و بالتالي فأي ثورة هي بالضرورة ثورة ضد التخلف.
أمريكا مند اندلاع الثورة العربية المضفرة تحاول أن تطرح نفسها كحليف للشعوب العربية, لكن الشعوب بوعيها السياسي وبفطرتها السياسية تعرف أن الأنظمة العربية هي امتياز لأمريكا وأدوات كانت توظفها من أجل ترسيخ هيمنتها على العالم العربي وامتصاص مقدراته وموارده, وهو ما أنتج حالة التخلف الفظيع الذي لازم الشعوب العربية.لذلك فتعاطي أمريكا مع الربيع العربي لا يخرج عن إستراتيجيتين اثنتين الأولى : هي الاحتواء كما هو حال الثورة اليمنية التي فشلت في تحقيق أهم أهدافها. والثانية هي الإرهاق والاستنزاف كما هو حال الثورة السورية, من خلال الإطالة في أمد النظام القاتل لتنشغل الثورة فيما بعد بجراحاتها وماسيها.
ثم إن الإساءة إلى النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام, ليست حادثا عرضيا ولا مبادرة فردية كما يروج البعض ,بقدر ما تندرج في سياق ثقافة جديدة وقديمة في نفس الوقت هذه الثقافة مؤطرة كنسيا وإعلاميا ومدعومة اقتصاديا وسياسيا وقانونيا,هدفها المبالغة في استفزاز المسلمين والطعن والتشكيك في مقدساتهم ومعتقداتهم ,والمسألة لا علاقة لها بحرية التعبير على الإطلاق ,وإلا فبماذا نفسر منع رسوم مسيئة إلى النبي عيسى عليه السلام في ألمانيا موازاة مع تكريم الرسام المسيء برسومه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في البلد نفسه.
وهذا الاستفزاز لا يمارسه الغرب برسومه وأفلامه المسيئة للمقدسات الإسلامية فحسب,بل يمارسه بوسائل وطرق أخرى مثل: نشر صور التعذيب في غوانتانامو وأبو غريب، إهانة المصاحف في المعتقلات والسجون ,إهانة الجثث والتمثيل بها والتبول عليها و إيواء وتكريم المتورطين وتحصينهم من الملاحقات القضائية ,تعمد قتل المدنيين وقصف التجمعات السكنية..إلى غيرها من الطرق الأساليب .
باختصار ما يحدث من غليان إسلامي هو امتداد طبيعي وحتمي للثورة العربية,لأن تحقيق أهداف الثورة يعني بالضرورة إنهاء حالة التبعية والوصاية التي يمارسها الغرب على الأمة العربية والإسلامية, لأن من ابسط شروط التقدم وتحقيق التنمية هو في تأميم موارد الأمة وتضميد نزيف خيراتها,بما يفضي إلى هدم أركان النظام الدولي الذي مرر كل المؤامرات على الأمة وصادق عليها وباركها وسهر على تنفيذها وليس أقلها حرمان المسلمين من أقدس مقدساتهم وهو المسجد الأقصى.
وحتى إن لم يثر العرب ضد الغرب بسبب الإساءة إلى مقدساتهم فسيثورون عليه لأسباب أخرى لكن حتما ستكون الإساءة إلى المقدسات ضمن لائحة الحساب.