محمد اقباش
لم يعرف التداول على السلطة في بلدنا نشازا كالذي عرفه في عهد الحكومة المنتهية ولايتها في شخص عبد الإلاه بنكيران ، نشاز استمر للأسف، مع خلفه بناء على المرجعية المشتركة في التنظير والتدبير ، وإن اختلفت الأساليب. الذين كتبوا عن هذا الكائن السياسي الذي هو بنكيران هم كثر ، لكن من منظور جرد اختيارات سياسته وآثارها على التنمية المجتمعية ،وعلى تحقيق الرفاه من عدمه وأثر كل ذلك على ظروف الإستقرار والطمأنينة بالبلد. أنا اخترت أن أدلي بدلوي في الموض وع ،لكن من موقع من أكتوى بنار التدبير الحكومي ، ومن إمعان الوخز في كرامة القطاع الذي أشتغل فيه ، قطاع التربية الوطنية الذي وصل الى الحضيض على سلم الوضع الإعتباري وأقصي من أولويات الإهتمام بالنسبة للحكومة . اخترت أن أتعرض لجانب من مسار هذا الرجل الإستثنائي، الذي ساندت في تثبيت وجوده وتحويله من شخص عادي بميولات الزعامة إلى شخصية عمومية ، سلسلة من الأحلام المجهضة والآمال المعلقة ،سرعان ما تأكد زيف ادعاء تحقيقها ،فالواقع عنيد ومن السذاجة دغدغة مشاعر الناس بطموحات مستحيلة.
وإذا كان واجبا تحديد من يساند ومن يعارض سياسة دفعتها إلى الواجهة عوامل اليأس المختلفة دفعا ،فلا بد من تمييز صنفين: صنف أضحكه بنكيران وهو من المؤيدين الواقفين صفا صفا في انتظار إشارة التصفيق أو الإنتشاء بالسخرية والتقريع التي يلجأ إليها الزعيم من حين إلى حين ، وصنف ضحك عليه وسخر منه، وهو من المعارضين لسياسته في استبلاد الجماهير و كاتب هذه السطور ضمن هذا الصنف .
فأما فئة المؤيدين وهم أنصار الشعبوية فيتوزعون على أصعدة شتى ، منهم البسطاء الواقفون على باب الله ،اليائسون من أي أثر إيجابي ترتب عن التدبير الحكومي السابق لعهد بنكيران وهم عمليا ناقمون على عدم تحقيق ذواتهم في تلك الفترة، ويذهبون في تأييد الرئيس إلى أبعد مدى ، رغم قناعتهم بهزالة الحصيلة وضعف الأداء. ومنهم المطبلون المناصرون المنتظمون فيما يسمى ب"الكتائب" التي تذود عن التراب التي يطؤها الزعيم ، وحينما يتصل عمل الكتائب الدؤوب بموافق هؤلاء البسطاء الذين لا حيلة لهم وسقف طموحهم واطئ ، فاعلم أن هنالك تجييش في الأفق نتائجه محسومة لصالح هذا الحزب لا محالة.
وأما فئة المعارضين والطبقة الوسطى عمودها الفقري، فعيبها أنها دشنت حملة مطالبها المشروعة في الزمن الخطأ ، زمن سيطر عليه من يستعجل الإصلاح دون امتلاك آلياته ، ومن يلتمس الرضا دون أن يأبه بمصير من أوكلوا إليه أمور تدبيرهم. هذه الفئة هي من تفنن السيد بنكيران في إذلالها وأمعن في الحد من طموحاتها وصرف ذلك فيما يشبه الحقد عبر تصريحات ومواقف رسمية لن ينساها التاريخ ، والنتيجة أن أصبح اليأس يجول بين ظهرانينا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
ولعل عمل الكتائب الإلكترونية ، ليس وحده هو من يؤمن استمرار هيمنة الحزب المعلوم برموزه المتنكرة ، بل هو مسنود بجيش من الجمعيات والحركات النشطة في استقطاب الحيارى والمغلوب على أمرهم(هن) والسذج من القوم الذين يثقون ثقة عمياء في نية الإصلاح ولا فكرة لهم عن تدابير الإصلاح ذاته ، منخدعون بالمسحة الدينية للحزب والمشاريع-المصيدة التي يطلقها عند الضرورة ، ليس من أجل سواد عيون التنمية ،بل يسخرها بمنطق استقطابي يراوح ما بين الديني والأخلاقي ،
وحيث أن النساء ،مع احترامي للحرائر منهن ، هن أكثر قابلية للإنقياد والتأثر بالخطاب الديماغوجي ، فإن عمل الجمعيات المعنية انصب أساسا على هذه الفئة بالنظر الى حصيصها المعتبر في الكتلة الناخبة ، سيما إذا كانت هؤلاء النساء تعانين الهشاشة والإقصاء وتحتجن إلى دعم ما أم تعويض سيكولوجي عن الإحباط الذي يلازمهن في بيوتهن . إن ما يعاب على هاته الجمعيات هو المكر الذي تباشر به تدخلاتها في حياة الفئات المستهدفة والإبتزاز الضمني أو الصريح الذي تبرر به أعمالا هي من صميم التزامات الدولة ، ومع ذلك تحاول أن تقنعهم أو توحي لهم بتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه حينما احتضنتهم هيآت سياسية منافسة أخرى.
إن ديمقراطية بعض ملايين من "المناضلين" المدججين بالعقيدة الإنتخابية ونزوعات الطموح الجارف للإستئثار بالسلطة أو حيازة جزء أكبر منها لا يمكن تضمن استقرارا في الأداء السياسي ترضى به الأغلبية ، ولا أن تؤمن ممارسة سليمة للتداول على السلطة . صحيح أن حزب العدالة والتنمية وبنكيران عنوانه البارز ،هو من التنظيم المحكم والإنخراط الملزم مايجعل الأعداء يشهدون له به قبل الأصدقاء،كليلنا على ذلك كيفية إدارته للحملات الإنتخابية ، والنزاهة المحسوبة التي يبديها ،لكن في إطار مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، حتى أنه ليفهم من استخدام وسيلة التنظيم المحكم و والإرادة المتزايدة في الإيحاء بنظافة اليد ، تلك الرغبة في تحقيق اكتساح سياسي وانتخابي يعفيه من استجداء تحالف ، قد يكون مكلفا ، مع كيانات سياسية أخرى، وبالتالي من الوقوع في وضع غير مريح انتخابيا يمنعه من تمرير مشروعه التفقيري بسلاسة.
سيظل التاريخ يتذكر أن رئيسا من طينة خاصة أضحك وأبكى ،بعد أن ارتفع إلى سدة الحكم والتف عليها بشعارات شعبوية ووعود عرقوبية ، جاء بنية التدليس على إرادة الجماهير والبسطاء في مقدمتهم ،بادعاء تضامن عابر هنا ومساعدة مشروطة هناك. وحيث أن صفاء النية وصلاح الوسيلة هما شرطان ضروريان لإنضاج أي مشروع يتوخى تحقيق التنمية والرقي ، فإن غيابهما في حالة ولاية الرئيس المنصرمة جعلت المغرب يتقهقر في سلم التنمية على كافة المستويات بعد تزايد المديونية بشكل لافت وتعاظم شبح البطالة المقنعة ، ناهيك عن شل القدرة الشرائية لدى الفئات النشطة في المجتمع .