محمد نيات
تلجأ الكثير من المنظمات الإجرامية والإرهابية، إلى أسلوب التحوز على رهائن لممارسة أقصى درجات الضغط، وذلك عبر المقايضة بسلامتهم البدنية وأرواحهم، قصد الحصول على ما ترمي إلى تحقيقه من أهداف وغايات. وبغض النظر عن مدى مشروعية المطالب وعدالة القضية، فإن هذا الأسلوب من الصراع والمواجهة يعتبر أسلوب الجبناء، وطريقة همجية لا تمت إلى المدنية بصلة. هو أسلوب الجبناء؛ كونه يقحم أناسا لا صلة بالموضوع لا من قريب أو بعيد، ويحولهم إلى ضحايا في قضية لا شأن لهم بها.
مناسبة هذا الكلام (مع وجود الفارق طبعا) هو المعركة النضالية التي يخوضها " الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد"، وهم من تسميهم الحكومة المغربية ووزارة التربية الوطنية بــ " الأساتذة أطر الأكاديميات"، والتي تحول بموجبها، الآلاف من تلاميذ هذا الوطن إلى رهائن، تتم المقايضة بمصائرهم من أجل تحقيق مطلب الأساتذة المشروع في الإدماج في الوظيفة العمومية.
وإذا كان لا بد من التذكير، أن هذا الملف وغيره كثير، هو نتيجة طبيعية لتداعيات سياسات عمومية عرجاء ومشوهة، هي من إملاءات وتوصيات المؤسسات المالية الدولية، والتي وجب مواجهتها والتصدي لها بكل الحزم المطلوب، كونها تضرب في العمق المكاسب الاجتماعية والاقتصادية القليلة جدا التي يستفيد منها الشعب المغربي، فإنه وجب التذكير مع ذلك؛ أن النضال يجب أن يكون بالوسائل المشروعة والأخلاقية، وأن يكون نضال الشجعان لا الجبناء.
وإن كنت من المتعاطفين مع القضية العادلة للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، وإن كنت أنا كذلك من بين الملايين الذين اكتووا بنار تلك السياسات العمومية، وإن كنت من الداعين إلى تصعيد وثيرة النضال قصد مواجهة كل المخططات الرامية إلى تفقير هذا الشعب والعبث بثروات هذا الوطن... فإنني مع كل ذلك، أرفض رفضا قاطعا أن يحول التلميذ ومستقبله الدراسي، إلى رهينة في قضية لا شأن له بها، وأن يضحى ضحية لسياسة شد الحبل التي ينهجها طرفا الصراع.
لقد أضحى التلاميذ ضحايا، وهم ليسوا بالمناسبة إلا أبناء فقراء هذا الوطن، كونهم ضُيعت عليهم العديد من الحصص الدراسية التي يصعب تداركها، خصوصا وقد بدأ العد العكسي لنهاية السنة الدراسية.
في المستويات الإشهادية؛ ولنقل في الباكلوريا، كيف سيكون التلميذ الرهينة، وقد فوتت عليه العديد من الحصص الدراسية، ندا لتلميذ آخر ضمن له ما يؤديه والده من أقساط شهرية للمؤسسة الخصوصية التي يدرس بها، مسارا دراسيا طبيعيا وغير متعثر؟ ألن يكون ذلك دعاية مجانية للتعليم الخصوصي، وبالتالي ضربا للمدرسة العمومية التي يتشبث الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد بكونهم يدافعون عنها؟
كيف سيلاقي الأستاذ الذي فرض عليه التعاقد غدا، وبعد أن يكون منتشيا بتحقيق مطلبه في الإدماج في الوظيفة العمومية، تلامذته وقد ضيعوا بسبب الأسلوب النضالي الذي اختاره لتحقيق مطلبه ذاك، سنة دراسية من أعمارهم؟ بل كيف سيلاقي فئة أخرى من التلاميذ، وهم الذين قد يكونوا ولنفس السبب ضيعوا حلمهم في متابعة الدراسة إلى الأبد، بعد أن فشلوا في استثمار الفرصة الأخيرة التي كانت لديهم؟ ألن يكون ذلك إجراما في حق كل هؤلاء؟
أعلم جيدا ما يمكن أن يثيره رأي كهذا من ردود، خصوصا ما تعلق بمسؤولية الحكومة في كل ما جرى ويجري، وبكونها هي المسؤول الأول عن إيجاد الحلول، لكن ومع ذلك، وجب التأكيد أنه حتى وإن كانت القضية عادلة والمطالب مشروعة، فإن وسيلة النضال والمواجهة يجب أن تكون كذلك نظيفة وشريفة.
وتبعا لذلك، وكمواطن فقير، وكأب درس أبنائه في المدرسة العمومية ويدرسون:
ـ أرفض رفضا قاطعا أن يتحول التلميذ الفقير إلى رهينة؛
ـ أرفض رفضا قاطعا أن يؤدي التلميذ الفقير وحده ضريبة النضال في ملف لا علاقة له به لا من قريب أو من بعيد؛
ـ أرفض رفضا قاطعا أن يُضيع التلميذ الفقير في حقه المشروع في التمدرس ولو لحصة دراسية واحدة، في الوقت الذي يستفيد منه زميله المنحدر من أسر ميسورة الحال، والذي يدرس بالمدرسة الخاصة، ليس فقط من حصصه الرسمية، بل ومن حصص الدعم والتقوية. أليس هذا ضربا موجعا ومباشرا للمدرسة العمومية؟
ـ أدعو إلى مزيد من النضال والمقاومة لكل السياسات العمومية الرامية إلى ضرب مكتسبات الشعب المغربي، لكن بالوسائل النضالية المقبولة أخلاقيا، والمشروعة قانونيا، والتي لا تخلف أي نوع من الضحايا ممن لا دخل لهم في موضوع الصراع.
لقد نجح الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد في التعريف بقضيتهم وعدالتها، ولفت نظر الرأي العام الوطني بل وحتى الدولي إلى ما يكتسي ملفهم من حيف وظلم، وإلى كسب تعاطف وتأييد ومساندة الكثير من المواطنين حتى من بين آباء وأولياء تلامذتهم أنفسهم...، وتمكنوا تبعا لذلك من تحقيق العديد من المكاسب. لكنني، ومع كل النجاح الذي حققوه، أعتقد أن ما تمكنوا من ربحه من تأييد ومساندة، قد يخسروه في لحظة واحدة إذا ما استمروا في مقاطعة التدريس، وطبيعي أن يكون الآباء أول من سينقلب عليهم ما دام أبنائهم هم الضحايا الحقيقيون في هذا الملف.
هي دعوة إذن إلى تغليب صوت العقل والحكمة، واستحضار مصير أبرياء لا ذنب لهم إلا كونهم أبناء فقراء، هي دعوة إلى استئناف العمل وتعويض ما هُدر من زمن مدرسي وتدارك ما يمكن تداركه.
هي دعوة لكل ذلك، لكنها بالمقابل ليست دعوة لتعطيل النضال، فقط الاجتهاد في ابتكار وسائل ضغط مجدية لن يكون لها ضحايا أبرياء.
إن الدفاع عن المدرسة العمومية، هو دفاع في العمق عن الفقراء وعن حق أبنائهم في التمدرس، وحين يمس هذا الحق، فلن يستطيع أحد اقناعنا بكون نضاله هو دفاع عن المدرسة العمومية.