محمد كريم
منذ ثمانينيات القرن الماضي، تزايد الاهتمام بالتدبير العمومي في جل البلدان، والذي صاحبه من تغييرات ذات طابع إداري وموازناتي و محاسباتي. اذ انه لا يمكن تصور أي إصلاح فعلي دون المرور عبر إصلاح موازناتي.
هذا، وبعد أن انطلق الاصلاح في استراليا، إبان ثمانينيات القرن الماضي، انتقل التدبير المرتكز حول النتائج اوما يسمى أيضا بالتدبير الموجه نحو نجاعة الأداء تدريجيا ليصل الى أمريكا خلال عقد التسعينات، والى اوروبا نهاية القرن العشرين، ثم الى القارة الإفريقية حاليا. وكان من أهداف هذه المقاربة الجديدة، التأسيس لتدبير عمومي هدفه الشفافية والمسؤولية وتقديم الحساب، وقوامه التخطيط الاستراتيجي وقياس آثار السياسات العمومية على المرتفق. إلا أن فلسفة هذا الاصلاح ما كان لها أن تكون إلا في تناغم تام مع ميزانية الدولة. وهو ما حدا بالقائمين على الشأن العمومي الى التفكير في اصلاح موازناتي كمدخل لإصلاح الادارة.
جدير بالذكر، أن النظام الموازناتي التقليدي والذي كان يرتكز على المدخلات " أي ما يتم صرفه من اعتمادات" والأنشطة" أي ما يتم انجازه" والمخرجات "أي ما يتم انتاجه" ، أبان عن محدوديته لانه لم يرق الى مستوى طموحات الملزم الذي اصبح يصر اليوم على معرفة أين وكيف تصرف أموال الضرائب التي يؤديها.
وامام هذا الوضع، قامت الحكومات في مختلف البلدان بتوسيع نظرتها التقليدية لممارسات التدبير العمومي، على غرار القطاع الخاص، باعتماد تدبير مرتكز حول النتائج ونجاعة الأداء. هكذا، تم استبدال منطق الوسائل بمنطق النتائج، وما صاحبه في العمق من انتقال من مقاربة قانونية وتقنية لاشتغال الادارة نحو مقاربة مرتكزة على ثقافة تدبيرية في خدمة المواطنين.
وقد تمثلت نقطة الانطلاق في المغرب في تكريس التدبير الموازناتي المرتكز حول النتائج من خلال سن القانون التنظيمي للمالية المتعلق بقوانين المالية، وهو ما سيفضي إلى تغيير كبير على مستوى الفعل العمومي.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن التدبير المرتكز حول النتائج يتطلب إصلاحا شاملا للمصالح الإدارية وذلك لملاءمتها مع حجم البرامج، وتكوين موسع للمسؤولين والموظفين بغض النظر عن مستوياتهم، ونظام معلوماتي متطور، فضلا عن اعادة تبويب الميزانية وهيكلتها حول البرامج كإطار لتجسيد منهجية نجاعة الاداء، بالإضافة إلى إصلاح الانضمة الأساسية للوظيفة العمومية. الخ.
بالإضافة الى ذلك، هناك أدوات أخرى ضرورية تتعلق بالموازنة العمومية والتي تشكل اسسا لتدبير موازناتي مبني على النتائج كجدول العمليات المالية للدولة، وإطار النفقات على المدى المتوسط، ومسك محاسبة مبنية على الاستحقاق. هذه الأسس لا محيد عنها من اجل ارساء تدبير عمومي صائب للميزانية في المغرب موجه نحو النتائج .
ذلك انه يعتبر من الضروري استشراف ما سيقع على مدى يتجاوز السنة من اجل رؤيا واضحة عن المداخيل و التمويلات المتاحة وتقييم الآثار الموازناتية المتعددة السنوات الناجمة عن القرارات التي تقرر. فميزانية البرامج تسمح خصوصا، بالاجابة عن هذه التحديات طالما أنها تمكن من تجميع الانشطة التي تصبو الى تحقيق غاية موحدة ذات أهداف محددة بواسطة موارد مهمة. وتشكل تمثيلا مندمجا وموجها لاعتمادات الميزانية.
ومن جهة اخرى، فإذا كان للنفقة العمومية في الدول المتقدمة ذات الاقتصاديات المهيكلةٌ آثارا مرئية فإنها لا تعدو أن تكون كذلك في الدول السائرة في طريق النمو بما فيها المغرب، حيث لا تحقق النفقة العمومية ما ينتظر منها من آثار.
لهذا السبب، يتوجب ربط ميزانيات البرامج بنموذج تنموي على المستويين الوطني والجهوي. وفي هذا الصدد، وبالاستناد إلى خلاصات التقرير الأخير للبنك الدولي والمعنون ب" تغير الثروة لدى الأمم 2018" يتبين أن الناتج الداخلي الخام الفردي بالمغرب سجل ارتفاعا مهما ناهز45 بالمائة في الفترة ما بين 2005 و 2014. ويرجع هذا النمو إلى ما راكمه بلدنا من رأسمال منتج "العقار والبنيات التحتية.." و ما يتوفر عليه من رأسمال طبيعي "الغابات والموارد المنجمية على سبيل المثال" . لكن يبقى الرأسمال البشري الحلقة الاضعف حيث لم تتجاوز مساهمته في الثروة الكلية حدود 41 بالمائة سنة 2014، فيما وصلت 59 بالمائة في مصر و 65 بالمائة في لبنان.
حري بالذكر أن هذه الدراسة تطرقت الى تطور الثروة في 141 بلدا بين سنتي 1995 و 2014، وذلك باعتبار الرأسمال الطبيعي" الغابات والموارد المنجمية"، والرأسمال البشري " دخول الفرد خلال مدة حياته" وكذا الرأسمال المنتج " العقار والبنيات التحتية إلخ"، بالإضافة الى الاصولات الخارجية الصافية.
في هذا الاطار، يتضح أنه من الضروري أن تترجم ميزانيات البرامج والميزانيات العملية للبرامج أسس نموذج اقتصادي بالمغرب، خصوصا على المستوى الجهوي كما دعا اليه جلالة الملك خلال افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان سنة 2017.
أما في فرنسا، النموذج الذي تستلهم منه جميع الدول الفرانكفونية اصلاحتها، فقد انتهت حاليا من وضع جيل جديد لإصلاح الموازناتي التي بدأته سنة 2006 ، بعد المصادقة على بنود القانون التنظيمي لسنة 2001. هذا الإصلاح الأول من نوعه ينبني على اعداد ميزانيات البرامج، وبلورة اهداف خصوصية وتحديد مؤشرات نتائج لحوالي 150 مديرية (50 مديرية من 200 أصل مديرية تم إلغاءها او إدماجها) في سنة 2009 في اطار المراجعة العامة للسياسات العمومية.
اضافة الى ذلك، قامت فرنسا بعملية إدماج الوزارات و ضيقت من المندوبيات الترابية بهدف تمكين تناسب حجم البرنامج بالمحيط الإداري المعني. و يجب الإشارة الى ان الإصلاح الإداري في فرنسا يمكن اعتباره اكبر تحدي واجهه البلد خلال ولاية نيكولا ساركوزي.
منذ ذلك الحين، نلاحظ أيضا ان هناك استقرار على مستوى عدد ومضمون البرامج و الأهداف إضافة الى المؤشرات التي لم تعرف تغييرات نوعية منذ سنة 2009، وهوما يترجم إرادة هذا البلد و طموحه لإنجاح وضع ميزانيات البرامج الكفيلة بتحقيق النتائج المنتظرة.
القاسم المشترك بين كل التجارب الدولية بما فيها التجربة الفرنسية وهو توفر إرادة سياسية قوية و تفعيل دورالبرلمان لتصور اصلاح بدأ بسن اطار قانوني واضح و مُفصًّل كمقترح لقانون تنظيمي للمالية مرورا بالمراجعة العامة للسياسات العمومية و وصولا لوضع صيرورات كلية. بفضل هذا الإصلاح تمكنت فرنسا المرور الى الجيل الثاني لإصلاح الميزانية بارساء صيرورات كلية تهدف الى خلق توازن لمكونات الجيل الأول من اصلاح الميزانية.
يستشف من تحليل الإحصائيات أن عدد المهام وعدد البرنامج وعدد الأهداف لكل برنامج ثم عدد المؤشرات عرف على العموم استقرارا. مما يعني أن فرنسا انطلقت برؤيا واضحة فور المصادقة على قانون تنضيمها سنة 2001. فنسبة المؤشرات الثابتة على مر السنوات منذ سنوات 2009 هو 88 بالمائة.
من جهة اخرى، لم يتجاوز معدل عدد الأهداف لكل برنامج هدفين ونصف. مما يعني أن الأهداف الخصوصية للبرنامج يجب أن تكون على العموم مقلصة وتعبر عن المكونات الرئيسية للبرنامج. اما مؤشرات تتبع درجة تحقيق الاهداف فهي لم تتجاوز معدل مؤشرين لكل هدف. و هذا المعدل منطقي بحكم انه يجب انتقاء مؤشرات النتائج و ليس مؤشرات الوسائل او مؤشرات النتائج. لكن لا شيء يمنع من انتقاء أكثر من مؤشرين إلى حدود ستة بالنسبة لبعض الاهداف التي تتطلب مزيدا من الضبط و التتبع ان اقتضى الحال.
ثمة إجراءات جريئة اخرى تم اتخاذها كحذف اكثر من 30600 منصب على اثر الاحالة على التقاعد و منع تحويل الاعتمادات إلى الأجور منعا باتا و تطوير المراقبة على تطور كتلة الاجور. و في مجال التكوين عملت وزارة الاقتصاد و المالية الفرنسية على تكوين 10000 موضف حول كيفية تدبير ميزانيات البرامج شملت على حد سواء التقنيون والأطر العادية و المسئولون. اما من جانب الانضمة المعلوماتية فقد تم تطوير انضمة معلوماتية عديدة ككوريس و ايليو من أجل مواكبة الإصلاح و تسهيله.
وأخيرا و ليس اخرا، قامت فرنسا بخلق لجنة بيوزارية للتدقيق في البرامج ((Comité d’Audit et d’Evaluation des Programmes, CIAP و هو عبارة عن مؤسسة عمومية مستقلة تقوم بتحديد الصقف المنتضر بلوغه لكل مؤشر وكذا خلق مصالح المراقبة الداخلية للتدبير في كل وزارة وكذا لجن التدقيق الداخلية.