د.احمد الدرداري
لقد قامت الأمركة على أسس اقتصاد العولمة المعقدة والملتبسة وتحمل في طياتها أفكارا سياسية وثقافية مضادة للهويات الوطنية والمحلية لدول الجنوب مفتقرة للمحاسبة، وتهدد بنسف القيم التقدمية والمحافظة وتضعف السلام بين الشعوب مسخرة في ذلك القوة المادية، العلمية، التكنولوجية والعسكرية، وأصبحت تفرض أفكارا مظلية دون مراعاة خصوصيات دول الجنوب و البناء من الأسفل، وهذا جعل من هذه الدول والشعوب والجماعات تحس بالاضطهاد والتحكم في العالم والسيطرة التي اصبحت تهدد بإفراغ نظريات السلم والأمن والتعايش من انسانيتها، وفقدان التوازنات الدولية بسبب هيمنة نظام اقتصادي أكثر همجية ووحشية.
الأمركة أعادت العقيدة العسكرية الى الواجهة:
لقد أصبح اعادة البشرية الى الوراء أمرا ممكنا لاسيما مع العودة الى العقيدة العسكرية واستعراض المنتوجات العسكرية النووية والفائقة التطور والخطورة، وتنامي الصراع الدولي حول الأصل التكنولوجي العسكري والمدني والاقتصادي باعتبارها محددات سيادية تحكمية ورابط قوميات جديد وهي شرط لصيانة الهويات والثقافات والاديان.
كما أن الأحداث المتسارعة ذات الارتباط بالطاقة وخصوصا الصراع حول ما تبقى من مخزون البترول في دول الشرق الاوسط، ينذر بإشعال حروب جد متطورة وكارثية بسبب غياب نظام الاستغلال وتحديد الاسعار في مقابل تنمية الشعوب المصدرة للبترول، وأيضا بيان الأنصبة الذاتية والموضوعية الخاصة بالتصدير والاحتياط لدى كل الدول المستوردة وتعقيد العلاقة بينها وبين الدول المصدرة للبترول، مما أضحى الصراع ينبأ بخطر الدخول في دوامة الحروب والتلويح باستخدام الأسلحة المدمرة والحروب الطاحنة التي تجد مبررها في العقيدة لاسيما بين ايران واسرائيل، حيث أن المجازفة الدولية غير محمودة العواقب، وحتى اذا كانت الحرب لابد منها فان التوقعات ليست دقيقة وستكون غريبة النتائج وعميقة الأثر.
الأمركة أحيت الحرب الدينية.
ان عنصر الدين محوري لتغذية الصراع والدفع بالشعوب الى تنامي الحقد والكراهية والكفاح والمقاومة ورفض الاملاءات المعبدة الطريق للعولمة، ومع وجود سياسة فرض العقوبات، فان تجديد العقيدة العسكرية وتطوير التسلح يبدو الحل الوحيد أمام الدول لمواجهة الهيمنة واختراق الهويات وسيادة الدول ورفض فكرة تحويل مواردها لخدمة اقتصاد الدول الكبرى.
كما أن معادلات الصراع المبالغ فيها أصبحت تهدد الاستقرار العالمي وستحدث تفاوتات دولية متزايدة ستزيد من اتساع الفجوة الاقتصادية بين الدول الغنية والدول الفقيرة وسيؤدي ذلك الى ارتفاع مؤشر الهجرة الدولية وتدمير الاقتصاديات المحلية الطبيعية بسبب هيمنة الاقتصاد التجاري الوافر الانتاج وتكريس التفاوتات بين الدول وكذلك تدهور حياة الافراد مع وجود فوارق اجتماعية كبيرة داخل الدولة الواحدة.
الأمركة أنهت حلم الشعوب بالديمقراطية.
ان التهديدات التي تواجهها الديمقراطية حتى من طرف دعاة الديمقراطية انفسهم من خلال ارتفاع مستوى انتهاك حقوق الانسان وصعوبة التمييز بين الأشياء المشروعة وغير المشروعة بسبب تدفق أحكام ومبادئ غير مألوفة في ثقافة الشعوب عن طريق التطور التكنولوجي واختلاط الثقافات في المجتمع الواحد، والتي تجد شرعيتها في الحرية والمساواة والنص القانوني العالمي. كل ذلك يجد مبرره في طبيعة الأهداف التي تتماشى مع نظام العولمة. ومع افتقار الحكومات للكفاءة المطلوبة للسباق التنموي يزداد مؤشر التخلف ومعه تتعالى أصوات الفئات العريضة من المجتمعات الضاربة في السياسيين غير الأكفاء والمصلحيين على مقاس العولمة، والقول بفشل الديمقراطية في تحقيق الأهداف التي نظر لها المؤيدين على أنها أفضل الأنظمة، بل هناك من يطالب بحكومات لها تفكير وطني مجرد عن التفكير السياسي غير الملتزم.
مرجعية الأمركة متعارضة مع مرجعيات الأخلاق الصينية والاسلامية.
ان الوضع الدولي المعقد ناتج عن تطوير الابحاث العلمية وتعقيدها وصعوبة تفسيرها و التنبؤ بمخاطرها وصعوبة تفسيرها، وللتهجين الثقافي أيضا أثر على الثقافات الأصلية وتعويضها بثقافة مختلطة بين المنتمين للديانات الثلاث رغم محاولة تليين الصراع بينها تحت شعار التسامح والتعايش، حيث رسم صامويل هنتنجتون الامريكي صورة كئيبة عن العالم عند قوله بفكرة صدام الحضارات الغربية والصينية والاسلام، بحيث يرغب الغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل لإبقاء الشعوب تحت السيطرة، وفي المقابل ترغب باقي الحضارتين في امتلاكها، والحصول على الأسلحة النووية. فبعدما استعملتها امريكا في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان، تحاول اليوم اقناع الدول بدمقرطة أنظمة الحكم على النمط الغربي الذي يقابله الرفض من قبل الحضارات المتناقضة معه ثقافيا ودينيا، حيث يعتبرون الديمقراطية بالمفهوم الغربي هي أسوأ الأنظمة وهي وسيلة لتسهيل التحكم واختراق أنظمة الدول والوصول الى ثرواتها، وفي الواقع هناك اختلافات شديدة حول نظام الحياة الفلسفية والانسانية والاجتماعية والمالية والعقدية بين الحضارات السالفة الذكر والتقارب الوحيد يوجد بين الكونفوشيوسية الصينية والاسلام، بالإضافة الى أن امتلاك الاسلحة الفتاكة أصبح الرهان الوحيد للوقوف ضد الظلم الدولي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعسكري.
الأمركة من وراء الأزمات المالية المتكررة.
ان الأزمات الاقتصادية العالمية كلها مرتبطة بنظام الهيمنة الذي تسببه الشركات العالمية وانطلاقا من ضرورة هيكلة الاقتصاد العالمي لكون الأزمات المالية أرهقت الاقتصاد الغربي وللتخفيف من حدة هذه الأزمات الناتجة عن سوء اختيار الأنظمة المالية، يعتبر صندوق النقد الدولي مؤشر على التحكم وتصدير الأزمات الى الاقتصادات الوطنية للدول المرتبطة سياسيا وماليا بالغرب، وقد أصبح صندوق النقد الدولي باعتباره مقرضا للدول النامية والملاذ الوحيد للحكومات الفاشلة التي تزيد من مديونية بلدانها، فقد تبنى شروطا للاقتراض ولتفعيل اقتصاد السوق فرضها على الدول النامية دون مراعاة الفارق بين ثقافات اقتصادات هذه الدول، وأصبحت موضوع خلاف وتعالت بذلك الأصوات المعارضة للعولمة، بل أصبحت هذه المؤسسة تهتم حتى بالرأسمال الخاص بالأصول المالية، وأدى ذلك الى انتشار أسواق المال ومراقبتها واقتراح وسائل الحفاظ على استقرارها.
وتجدر الاشارة الى أن البنك الدولي التابع للأمم المتحدة هو أيضا آلية عولمية، فهو يضطلع بتشجيع المرافق الانتاجية والموارد في البلدان النامية، وكذلك يقوم بالتمويل لأغراض انتاجية اذا لم يتوفر رأسمال خاص بشروط معقولة، ويشجع الاستثمار الدولي بغرض تشجيع التجارة الدولية والتنمية والتعاون في ميزان الأداءات، ويساعد الدول الأعضاء على تحسين انتاجيتها. بل ان التوجه السلبي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يتمثل في التدخل في اقتصادات الدول النامية ومحاربة الغنى من خلال فرضهما على الحكومات ضرورة التخلي عن السياسات الاجتماعية مقابل منح قروض اضافية أو تسهيلات مالية، وهو ما اختلف فيه المجتمع المدني العالمي، الذي ظهر كبديل للدولة القومية، ويملأ الفراغ في عمل الحكومات رغم أنه ما يزال يواجه العديد من التحديات ويخلق جدلا سواء في علاقته بمفهوم الحكامة أو بمفهوم السوق.
الأمركة أحيت العودة الى النزعة المحافظة.
ان النزعة المحافظة الجديدة التي تبدي التزامها بالثقافة القومية والأخلاقية وفرضت وجودها على العالم بصفتها جنسية للتمايز بين الثقافات بالرغم من رؤية فوكوياما لنهاية التاريخ لفائدة الليبرالية الجديدة باعتبارها المستقبل الايجابي والنهائي للبشرية. لكن تبدو امبراطورية مضادة ومنضبطة لأنماط الأفعال على وشك الظهور والاعلان عن نفسها باعتبارها نزعة مضادة للأمركة لكون العولمة تنقصها المحاسبة والشفافية كوجهين ضروريين لإنجاح أي مشروع اقتصادي أو سياسي أو مجتمعي دولي أو وطني، ويعتبر المشروع الاسلامي القومي الذي عرضه مهاتير محمد على اردوغان مشروعا جديا أكثر واقعية ومنقذ للشلل الذي يعانيه العالم الاسلامي على مستوى الدول العربية بشكل حصري خصوصا وأن هناك دولا اسلامية متطورة تكنولوجيا كماليزيا وأجرى مالكة للتصنيع العسكري المتطور كباكستان.
الشرق الأوسط مسرح للصراع الحضاري.
ان مخطط تقسيم الشرق الاوسط تحت عنوان صفقة القرن القاضية بتبادل الأرض وتغيير مساحة الدول بحيث هناك دول صغيرة ستصبح كبيرة المساحة ودول كبيرة الحجم ستصبح صغيرة، وبذلك سيتم تغيير حدود الدول التي جاءت في اتفاقيات سايس بيكو السرية التي وقعتها بريطانيا وفرنسا سنة 1916 بهدف تفتيت المنطقة، وهي حدود وضعها الاوربيون الانتهازيون حسب تعبير راد بيترز سنة 2006 في مقال له تحت عنوان "حدود الدم" بمجلة القوات المسلحة الملكية الامريكية عدد يوليو.
واليوم تحولت كل الانظار الى الشرق الأوسط الذي أضحى مسرحا للصراع الاقتصادي والعسكري والديني المتشدد.... حيث أن التاريخ يعيد نفسه بصيغة معاصرة وبأدوات متطورة، والصراع حول الأرض والبترول والأسواق المالية من أهم محاور الصراع تنضاف اليه أبعاد الصراع العسكري ومنع امتلاك الاسلحة الفتاكة من طرف دول الشرق الأوسط وأطراف الصراع حددت ضحايا الصراع من بينها وبنت صراعها على فكرة شرق أوسط جديد في حين الأطراف الحقيقة للمشروع هي خارج المنطقة، حيث أن ايران دولة أسيوية واسرائيل دولة الشتات من اليهود، والقاسم المشترك بينهما هو الأقوام الشاهد على الصراع الديني والعقدي وبعث كل الأنبياء والرسل بنفس المنطقة، بينما تبقى التبعية ولعبة المصالح هي المحرك والمحدد للتأييد وللحشد الدولي في الشرق الأوسط اما بزعامة امريكا أو بزعامة روسيا، ومع شحن الأسلحة التي تعزز سياسة فتل الذراع على أساس التفوق النووي، فان الوضع ينذر بحرب يسميها الأطراف بالحرب غير المألوفة وهناك من يسميها بأم الحروب، بات وقوف بريطانيا الى جانب امريكا ضد كل من روسيا والصين و فرنسا ينبأ بالتوجه نحو حرب عالمية تكنولوجية مدمرة تنطلق من الحقوق الطبيعية للشعوب وتوسع الدول عند الضرورة وتنتهي بالحق في تحديد المستقبل بناء على ما تمتلكه الشعوب من طاقة.
نظام الفوضى الخلاقة نهج أمريكي خاطئ.
ان الفوضى التي يسير على نهجها العالم اليوم سببها الأهداف غير النبيلة للأمركة وللعولمة الاقتصادية وعدم احترام قواعد القانون الدولي والتي ستؤول الى التراجع والتخلف لاسيما مع كثرة احتمالات التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتنوع الحروب التي لم تعد معها الدول قادرة على الأخذ في الحسبان كل التوقعات، كما دفعت العديد منها الى مراجعة سياساتها تجاه ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وأخذ الاحتياطات الضرورية تجاه نظرية المؤامرة و الحروب الجارفة للأمن والاستقرار والتنمية مثل زرع جماعات ارهابية لشل مقدرات الدول ومشاريع دول مظلية وهمية.... كداعش الارهابية التي تنسف أمن الدول وتضعفها لتخدم مخططات دول أخرى ولتستفيد منها دول معينة.
ان الايام والشهور والسنوات القادمة ستبين نوع الخبث الذي تختزنه نظرية الفوضى الخلاقة بين أقطاب الصراع حول الطاقة وحول الأرض وحول السلاح ومخرجات التفاعل والضغط الاقتصادي المالي والتجاري... تحت مسميات متعددة كمدخل تأمين مضيق هرمز والعرض التهديدي الأرض مقابل السلام ، وقضية القدس واعادة رسم حدود الدول العربية... وضمن قوالب مختلفة يتم توجيه الاتهامات ورسم سيناريوهات عبر وسائل الاعلام والادلاء بتصريحات متناقضة والمناوشات الممتحنة للصبر.. والنزول بالثقل الدولي لتعزيز مقاربات الحرب الرادعة وأخرى لتوازن الرعب في المنطقة، في انتظار الاعلان عن مشروع الدولة القومية الاسلامي أو نظام الخلافة الاسلامي والذي من المفترض الاعلان عنه بين 2020 و2025 وسيضاهي مشروع الدولة القومية الأمريكي وضدا في الذي المشروع الذي أعلنت عنه اسرائيل سنة 2018.