محمد إبراهيم الزموري
تعد هذه الدراسة مدخل تمهيديأو إطار عام نحو تأسيس رؤية و فهم جديد لإشكالية " النهايات و موت المصير"، مغايرا لما تناوله على سبيل المثال لا الحصر، "أمبيرش المهدي" في« نهاية الليبرالية وإنسانها الأخير»، وبحث "النقيد محمد سيف حيدر" حول « نظرية نهاية التاريخ »، ومُؤلّف "كتش محمد" بعنوانُ« نهاية العلم »، وكذا كتاب "بوعلو إبراهيم محمد"« نهاية الفلسفة النسقية»، ودراسة "آلانرونو" حول « نهاية السلطة »، فضلا عن بحث "هانس بليتينغ" المُعنون « نهاية تاريخ الفن »، وكتاب "جيانيقاتيمو" حول « نهاية الحداثة»، ناهيك عن المقالات الكثيرة، كتلك التي حرّرها "القادري بوتشيش إبراهيم" «حول نهاية التاريخ»، أو التي كتبها الدكتور "بوعرفة عبد القادر" يبحث فيها «الأساس الأسطوري لنهاية التاريخ»، ولكن، مثلما يُلاحظُ، بحثت أغلبُ هذه الدراسات نوعا واحدا من النهايات في إطار حقل دلالي محدّد مثلما هو بيّنٌ من عناوينها، ودرست النهايةَ من زاوية مُعيّنة دون الجوانب الأخرى التي تتّصلُ بها كقضيّة المصير في الغالب.
ولم تكنْ إشكالية هذه الدراسة في ضيق عالم مقال البحث، وإنّما في ترامي أطرافه ولا تناهي حدوده، فصار حالُنا أشبهَ بالمُتشوّف إلى ثمرتين بين يديه وهو عاجزٌ عن تناولهما جميعا، كما شبّه "أبو حامد الغزالي" حالَ الإنسان عندَ كثرةِ الاختيارات وتساوي الممكنات، ممّا يتعذّرُ معه الاختيار. فالمراجعُ في الموضوع كثيرة، والنوع الواحدُ من النهايات يحيلُ بالتسلسل اللانهائي فيما يبدو إلى أنواع أخرى، ولم نتحرّر، بعد زمن، من حيرة انتقاء المراجع وعائق اختيار النماذج إلاّ بالأخذ بقاعدة أهل العلم، والتي تقرّرُ أنّ ما لا يُدركُ كلُّه فلا يُتركُ جلُّه.
وكلّنا أملٌ في أنْ يصلح بحثُنا هذا منطلقا لفهم جديد، وأنْ يكون التصرّف فيه قدر التصوّر.
لقد تميّز الربعُ الأخير من القرن العشرين بسرعة التغيّرِ في كلّ أشكال المعرفة الإنسانية، وغزارة الإنتاج في شتّى مجالات الفكر، وبديناميكيةٍ في مُختلف جوانب الحياة، وكان لسرعة التطوّر بالغُ الأثر في القرن اللاحق. وظهرَ التسارعُ في الإنتاج الفكري كتزايُد دقّاتِ القلب المُؤديّة إلى توقّف النبض فجأة دون سابق إنذار، وأضمرت تلك الديناميكيّةُ نزوعا قويّا تُجاه القطيعة مع تيّار الموروث الفكري الوارد من العصور الماضيّة، والحدّ من تغلغله إلى الزمن الراهن.
وقد اجتمع في هذه الفترة الزمنية من أدوات الهدم والحذف والنقد والتقويض والتشكيك والتحطيم ما تفرّق في مراحل من تاريخ الفكر على العموم؛ ففي هذا العصر اجتمعت للقَوْمِ شفرةُ أوكام (Rasoir d’Occam) وشكُّ "بيرون"-Pyrrhon (365-275 ق.م) ومنهجُ الحذف المستخدم في إبعاد الميتافيزيقا عند الوضعيين المنطقيين، والتحليلُ النفسي الذي يتغلغل عميقا في الجوانب المظلمة من النفس، ولا يرى في الوعي إلاّ نورا باهتا يكادُ يخفُتُ في بحر ظلمات اللاوعي، ومعاولُ تحطيم الأصنام النيتشويّة. وكان أنْ أشْهَرَ مفكّرو وأدباءُ وفنّانُو العصر المذكور شفرةَ أوكام (Rasoir d’Occam) كما لم يُشهِرْها صاحبُها، وبلغوا بالشكّ مبلغا لم يرق إليه الشكّاكون الأوائل، وانهالوا على المقولات المُهيمنة على الفكر والموروثة تقويضا، ولئن كانت معاولُ نيتشه Nietzsche (1844-1900م) قد حطّمت أصنام الأخلاق والسياسة والفلسفة فحسب؛ فإنّ التقويض أواخر القرن العشرين وفي القرن الذي يليه مسّ جميع جوانب الحياة دون استثناء، وطبعت الفوضى والعدميةُ والتفكيكُ واللانظامُ واللامعنى والتشتيتُ والتشكيكُ روحَ العصر.
وبالفعل، تهاوى جدار برلين فأفل نجمُ الشيوعية وانهارت أيديولوجيتها (في أسلوب تطبيقها و ليس كفكر)، وتهافتت أنظمةٌ ودولٌ تبعا لذلك فانتهى عصرُ التخطيط في السياسة والاقتصاد، وزال الفرق بين الدال والمدلول وأصبحت العلاماتُ بلا معنى في اللغة، وتداعى صرحُ المقولات التي هيمنت على الفكر الغربي كاللغة والهوية والجوهر وفلسفة الواحد والتطابق، وتلاشت الأوهام الفلسفية؛ فكفّ العقلُ عن الحلم والطموح نحو امتلاك الحقيقة المطلقة، وكادت معاول التقويض أن تعصف بالفلسفة. وخارت قوةُ المنطق، وتداعى تماسكُ بنية المناهج؛ فتخلخلت الأجناس الأدبية الموروثة، وانتهى الزعمُ بوجود قواعد عامة، كلية وصورية، ومناهج ثابتة لا تُردُّ، وساد التشكيكُ في المعارف اليقينية. وتهاوى سلطانُ السلطة فتراجع النظام والتجانس وانكشفت الإيديولوجيات السائدة. ولمّا بلغت العولمةُ مرحلة الشمولية على مشارف نهاية القرن العشرين شاعَ الحديثُ عن النهاية وازدهر؛ إذْ في إطار العولمة وبفعل التطوّر المثير للتقنيات الجديدة للإعلام والاتّصال والثورة الرقميّة؛ اندثرت فكرة الأمة والقومية، وزالت الحدود فتحقّقَ حلمُ العدمي والفوضوي باكونينM.A.Bakounin (1814-1876م)، وانتهى عهدُ الكثرة والتنوّع والاختلاف والخصوصيّة. وهكذا بدا وكأنّ كلّ شيء ينتهي بالمعنى الحَرْفِي للنهاية، حتّى إذا ما مضت بضعُ سنوات من بدايات القرن الواحد والعشرين، اشرأبّت البشريّة تنتظر نهاية العالم، ولاجرم أنّ الروح العبثية والعدميّة واللامعقولية التي بثّتها ما بعدُ الحداثة في النفوس فعلت فعلتها ومكّنت لنبوءة حضارة المايا في عصر المنطق المبهم والغامض.
ولكن في المقابل إذا كان "جيل دولوز"-Deleuze.G (1925-1995م)، مثلا، قد انتقد فلسفة الواحد والتطابق لدى أفلاطون؛ فإنّه قد انتصر للسفسطائيين لأنّهم حملةُ اختلاف، فبعد تقويض الهويّة والثبات، نُودي بالديمومة والتعدّديّة كمقولات لفلسفة ما بعد الحداثة. وبالمثل بعد انهيار الفرق بين الدال والمدلول، قال "جان بودريار- Baudrillard.J" (1929-2007م ) بالدلالة العائمة عوض المعنى الواضح، وعقب التحرّر من قيود المنهجية وتحطيم الحدود بين أجناس الكتابة والانتصار للاشعور، نشأ في الفنّ والأدب والعمارة اتجاهٌ يتحلّلُ من واقع الحياة الواعية، ويركّزُ على ما هو متناقض ولاشعوري، ويُولي الاهتمام للتنفيس عن المكبوتات والأحلام اللاواعية، وإنْ كان الإبداعُ لا يخلو من الغموض والغرابة والرموز المُبهمة. وهكذا تتوالى الماورائيات، ويعقبُ الجانبَ الهدْميَ البناءُ والإبداعُ في الفلسفة والموسيقى والهندسة المعمارية والأدب والسينما وغيرها من مظاهر الثقافة، ويحلُّ الانفتاحُ على الغير والتفاعلُ والتحرّر من التمركز بفعل العولمة، محلَّ الانطواء والانغلاق.
ها نحن إذن إزاء حالة عِنادٍ كما تُشيرُ المعطياتُ السالفة، وإذا كان وضْعُ جانبٍ في العِناد يقتضي رفعَ الطرف الآخر ضرورةً، وكان الفكرُ- حتّى في أقصى درجات انخراطه في العبثيّة والفوضى والتحرّر من مبادئه – لا يتصوّرُ حصول النتائج دون مقدّمات أو وجودَ الأشياء إلاّ معلولات لعللٍ تتقدّمها، إذْ لا مجال للتوالد الذاتي من جهة، ومن جهة أخرى يدركُ العقلُ صعوبةَ بلوغ حدود الأشياء بالفعل وإنِ افترض وجودها بالقوّة.
ومنه فإنّ الفرضية التي ينطلق منها مقالنا هي تلك التي تؤكد على أنّ القولَ بالنهاية لا يعني السكونَ والتوقّفَ والحدّ، وإنّما هيميلاد واستئنافٌ وتجدّد. وهذا ما مفاده أنّ كلّ نهاية هي إعلانُ عن بداية.
لنناقض بذلك فلسفة موت الإله عند فريديرك نيتشه، وفلسفة موت الإنسان عند ميشال فوكو. وما ذهب اليهالمفكّر الماكر فرانسيس فوكويامافي نهاية التاريخ ومستقبل الليبرالية.
فمقولة النهاية ليست حدّا مستحدثا أو تصوّرا جديدا كلّ الجدّة. فلقد نشرت مجلة"ناشيونالإنترست" (The National Interest) وهيمجلةأميركيةنصفشهريةعنالشؤونالخارجية فيصيف 1989 مقالاًبعنواننهايةالتاريخ، وفي عام 1992 صدر كتاب "فرانسيس فوكوياما"، الذي أنشأ تلك المجلة، « نهاية التاريخ والإنسان الأخير »، فعرف مصطلحُ النهاية رواجا أُريدَ له كآليّةٍ إعلامية من أدوات العولمة، وذلك ما دامت أطروحته الرئيسة – مقترنا باللفظ تاريخ - مفادها أنّ الديمقراطيَّةالليبراليَّةبقِيَمها،تُشَكِّلُمرحلةَنهايةالتطوّرالإيديولوجيللإنسان،وبالتاليعولمةالديمقراطيةالليبراليةكصيغةٍنهائيةٍللحكومةالبشرية.
ولكن سواء أردنا بالمصطلح "نهاية" الأفول وتوقفالأحداثأوالعَالَمعنالوجود، أو فهمنا أنّ المُرادَ منه بلوغُ درجة متقدّمة من الإجماع على صلاحيةالديمقراطيةالليبرالية، وقدرتها على تحقيق نتائج أفضل للبشرية دون وجود منافس لها مثلما يريده فوكوياما؛ فإنّ هذه الفكرة تعود جذورُها إلى مرحلة التفكير الأسطوري في تاريخ الإنسان بالمعنى الأوّل، وإلى الكثير من الفلسفات والديانات بالمعنى الثاني على حد سواء؛ فمن أساطير بابل ومصر، إلى أساطير وتنبؤات حضارة المايا بأمريكا، شغلت النهاية وما تُحيلُ إليه من قضيّة المصير تفكير الإنسان.
ومن الديانات الوضعية إلى الأسفار السماوية، ومن فلاسفة اليونان إلى فلاسفة الإسلام والفلاسفة المسيحيين، فمفكري الغرب الحديث، تمّ الحديث بإسهاب عن الدولة الشمولية التي تمثّلُ النموذج الأعلى والمثال الأسمى الذي يُحقّق السعادة والفضيلة للناس جميعا قبل فوكوياما، وإنْ كان جديرا بنا هنا الإشارةُ إلى ضرورة التمييز بين العولمة والعالميّة، وهذه الثانية هي التي قصد إليها الإسلامُ وتضمّنها مشروع "كانط" نحو السلام الدائم.
وإذا كان أرسطو، قد عقد فصولا في كتابه "السماع الطبيعي" لإبطال القول باللانهاية (infini) بالفعل، وليقول بالنهاية فقط، علما بأنّ هذه الأخيرة تعني عنده المحدود، أو ما له حدّ (limite)؛ فإنّ في مذهب المعلّم الأوّل ما يعني أنّ النهاية تدلّ على توقّف الشيء، ولعلّ هذا الذي استنبط منه "لالاند" معنى الحد أو حد الحدود عندما ردّ مصطلح النهاية إلى أصله اللاتيني، وأرسطو ذاته بعدما رفض اللامنتهي، قال باللامحدود (indéfini) الذي له حدود بالفعل دون القدرة على بلوغها، وليس ذلك إذن سوى المنتهي أو النهاية بمعنى التوقف، والحاصلُ من ذلك وجود تعارض بين النهاية واللانهاية؛ فبالرغم من أننا نرى أنّ النهاية ذاتها تحيلُ إلى اللانهاية.
وعند الحديث عن السياقات الدلالية للنهاية، نذكر– على سبيل المثال لا الحصر – نهاية الفلسفة، ونهاية الميتافيزيقا، ونهاية العلم، ونهاية الفن، ونهاية الدولة، ونهاية الحداثة. ولو اقتصرنا على نهاية العلم مثلا، لوجدنا النهايات تتوالد بنوع من التسلسل اللانهائي؛ فمن نهاية الفيزياء القديمة إلى نهاية الفيزياء الكلاسيكية، فنهايةُ النظرية النسبية عندما بدأ فحصُها لبيان حدود تطبيقاتها. ومن نهاية النسق الهندسي الأقليدي إلى نهاية النسق الأكسيومي نفسه.
وبالمثل، عند محاولة نقدنا القول بنهاية التاريخ عند "فوكوياما"، تكاثرت النهايات بدلالات متباينة من نهاية التاريخ بمعنى أفول الشيوعية وسيادة الليبرالية، إلى نهاية الليبرالية الأمريكية بمعنى الأفول عند "تودوروف"، فنهاية القرن الأمريكي بمعنى الانحسار والتراجع مع "كولكو"، إلى نهاية دور الرجل الأبيض باستثناء الروسي الشيوعي من وجهة نظر "برتراند راسل"، فنهاية حضارة الرجل الأبيض مع "سيد قطب" واقتراح النموذج الإسلامي. وإذا كانت النهاية تحيل إلى المصير لاشتراكهما في الحقل الدلالي؛ فإنّها في العقيدة الإسلامية تحيلُ بنوع من علاقة التعدّي إلى الأبدية والخلود أو اللانهاية مادام الموتُ ذاتُه يموت يوم الحشر.
والحاصلُ من هذا، أنّه لا تعارض بين النهاية واللانهاية، ويلزمُ عن ذلك أنّ النهاية لا تعني دائما التوقف والحدّ بالمعنى الحرفي للكلمة، ففي النهاية إعلان عن بداية واستئناف وتجدّد، إذْ يبدو لنا جليا على مستوى الفلسفة مثلا، أنّ العدميّة والتحرّر ممّا هو متعارف والتشكيك والتقويض الذي اقترن بعصر ما بعد الحداثة، والذي يرجع أساسا إلى "نيتشه"، رغم وجود قول يربط فترة ما بعد الحداثة تلك بالفترة الزمنية الممتدة من 1970م إلى عام 1990م، لا يعني بالضرورة نهاية الفلسفة بمعنى التوقف، بقدر ما يعني أنّ التشكيك والتقويض إيذان بتحوّل جديدة في الفلسفة وفي طرح المشكلات المناسبة لروح العصر، تماما مثلما يعني الشكّ والنقد في العلم استئناف البحث والنظر ممّا هو سرّ التقدّم العلمي، لا الكفّ عنهما.
وفي سبيل تأييدُ فرضيتنا القائلة بأنّ كلّ نهاية هي في جوهرها إعلانُ عن بداية كما أعلنّا صراحة دون إضمار. ذلك لأنّ اعتبار النهاية توقفا وسكونا يبدو أقربَ إلى الحسّ العام، وهو المعنى الذي دعّمه استخدامُ شبنجلر وتوينبي في تفسيرهما لسير التاريخ، كما أكد ذلك التصوّر القولُ بموت الإله عند نيتشه، وكذا القولُ بموت الإنسان عند فوكو. وفي المقابل نؤيّد اعتبارُ النهاية عند ماركس وهيغل ذروةَ الاكتمال، حيث أن المعنى اللغوي للنهاية لديهم تعني الاكتمال وبلوغ الشيء كماله.
وإذا لجأنا إلى تأويل مواقف المفكّرين،كتأكّيدللأطروحة التي نريدُ إثباتها، وإلاّ فكل تصوّر للنهاية بالمعنى الحرفي العدمي يقوّضُ ذاته في الوقت الذي يعملُ على تقويض ما هو متعارف عليه، والحقيقة أنه إذا كان يُنظرُ إلى فترة ما بعد الحداثة التي ظهرت في سياق تاريخي مُعيّن على أنّها تمثّلُ نهاية لمرحلة الحداثة؛ فإنّ التغيّرات المُتسارعة التي يشهدها العالمُ في الآونة الراهنة، ستؤدّي بدورها إلى مرحلة بعد ما بعد الحداثة مثلما بدأ الحديث عنها.
ولأنّ البحث في النهايات لا يقف عند حدّ معيّن، فهناك الكثير من النهايات، منها على سبيل المثال، وليس على سبيل الحصر، نهاية المطلق؛ فإذا كان هيجل يعتبر أنّ المطلق هو الحقيقي فإنّ هذه القاعدة لم يصبح لها أيّة شرعية، وبالتالي فهي غير حقيقية، ذلك أنّ النسبي قد يكون هو الحقيقة. ونهاية اليقين التي بدأ معها عصر اللايقين، فكثير من المعارف والعلوم تأزمت وأظهرت محدوديتها في مجال اليقين، لتظهر مرحلة جديدة في موضوعاتها وتصوّراتها وفرضياتها، أدّت بدورها إلى نهاية سلطة العقل، فبعدما كان العقل في الفلسفات السابقة هو مصدر كلّ المعارف، فإنّه قد نزل من مرتبته هذه، لتحلّ محلّه ملَكات أخرى لتحصيل وامتلاك المعرفة، وأشهرها ملَكَة الحدس والإلهام مع "هنري برغسون"- Bergson.H (1859-1941م)، والروح التي أعطت تميّزا لكثير من الفلسفات أشهرها الظواهرية. فضلا عن القول أيضا بنهاية فلسفة التاريخ، تلك التي تؤكد أنّ أيّ تطوّر هو تطوّر أمامي مستقيم، بحيث ظهرت فلسفات تاريخ جديدة تؤكد أنّ التطور التاريخي قد يكون فوريا أو دائريا أو حلزونيا أو جدليا، دون أن ننسى أيضا القول بنهاية المؤلف، ونهاية الإنسان كما كتب فوكوياما ذاته، كما يوجد القول بنهاية الرواية، ونهاية الأدب، ونهاية اليقين، ونهاية الكون، ونهاية العلوم الاجتماعية، ونهاية الإتنولوجيا، وغيرها من النهايات.
و بدورنا نرى أنه مثلما يصلح اعتبار النهاية دالة على الأفول والزوال، يصحّ النظر إليها على أنّها تعني الاكتمال. وكما يوحي اللفظ بالتوقّف، تُعتبرُ النهاية إعلانا عن بداية جديدة. ولا تناقض البتّة في ذلك، فالأمر كما يرى الغشتالتُ يؤول إلى توقّف معنى الجزء على الإطار الكلي العام الذي يندرج فيه، أو كما يُقالُ في الرياضيات أنّ صحّة البديهية وصلاحيّتها يتوقف على النسق الذي تنتمي إليه.
كما أنّ الغموض الذي يكتنف أيّ بحث حول النهاية يعود إلى عدم ضبط المعنى المُراد من استخدام ذلك الحدّ، ويلزم عن ذلك ضرورة البدء بضبط مفهوم النهاية وبيان المقصود من تلك المعاني المشترِكة التي يصدق عليها جميعَها، والأمرُ يماثلُ تماما الغموض الذي ينتج عن استخدام الحدّ "عقل" عند الحديث عن كانط وهيوم، دون الانتباه لاختلاف الدلالة وإنِ اتّحد الدال لفظا.وعليه فلا يجوز، توخيّا للدقّة، أنْ نبحث النهاية فيختلط الحديث عن الزوال بمعنى الاكتمال، أو النهاية بمعنى المصير، ممّا يُدعى بمغالطة اشتراك المسائل.
وهكذا، يتأكّدُ لدينا أنّ الحدّ "نهاية" جديرٌ بمكانة ضمن الحدود الفلسفية على شاكلة:الجوهر، والوجود، والماهية،والحرية،ولأنّه يتضمّنُ معنى التجدّد والاستئناف؛ فإنّ بحثنا هذا ليس سوى تمهيد لما يمكن تسميته بمعجم النهايات، حيثُ نطمحُ إلى بيان أنواعها وما يشترك معها في الحقل الدلالي، وموسوعة فلسفة النهايات، حيث نعرضُ مختلف المشكلات التي يثيرُها والمواقف الفلسفيّة منها، وهو مشروع ممكن التحقيق متى توفرت له الكفاءة العلمية والكفاية المادية.