كاسم مبارك
لا شك أن الافتتان بتكنلوجيا المعلومات و بالقدرة الرهيبة للرقمنة و مزاياها و سهولة استعمال معلوماتها المخزنة لم يستطع بعد أن يجعل التجاهل سهلا للمعضلة الأهم في الموضوع و هي مدة حفظ المعلومة و تخزينها بشكل بشكل آمن للاجيال اللاحقة.
قد يبدو الوضع فعلا مقلوبا وغريبا نسبيا إذا عرفنا نحن جيل الرقمنة و الأجهزة الذكية أن الأجيال البشرية قديما استطاعت بشكل أذكى و أمهر أن تدون و تحفظ فكرها و تاريخها ما توصلت إليه من علوم إلى أن وصلنا على شكل مخطوطات و مجلدات و نقوش في الأحجار ..بل إن الجيل الحالي الغارق في البحار و العوالم الرقمية العميقة هو مدين فيما يعيشه من بحبوحة معلوماتية حد الميوعة إلى جيل أوراق النخيل و جلود الأنعام و مكتبات المخطوطات القديمة و غيرها من حوامل و حافظات العلم و المعرفة المتنقلة عبر القرون .
لم تظهر معضلة تخزين المعلومات و حفظها في العصر الرقمي الحالي إلا بعد أن بعد بدأت بعض المشروعات الرائدة تحاول التصدي لمشكلة اندثار و اختفاء المعلومات مباشرة بفعل تعطل الحواسيب او التلف السريع للأشرطة الممغنطة و ضياع أو توقف مواقع الويب و استحالة استرجاع مضامينها و محتوياتها ...
لم يجد بعد مؤيدو تيار الرقمنة أجوبة مقنعة للأسئلة و الإكراهات التي تواجه أي عملية لتحويل كل شيء ورقي إلى رقمي .. لا سيما :
التكلفة الكبيرة لأي عملية أو مشروع على المستوى البشري أو المادي
الحاجة المستمرة للدعم التقني و مساحة التخزين رغم ظهور خدمات ما يسمى الحوسبة السحابية
..التي تجعل زبنائها رهائن لخدماتها .
بيد أن الدكتاتورية الالكترونية الرقمية هي واقع لم يعد ينفع الهروب منه لمن تستهويهم رؤية الورق و شم رائحته و ارتشاف قهوة لذيذة على متعة الحروف السوداء المتراقصة على بياض الورق.....اختفت جرائد شهيرة من الأكشاك منها الغربية و منها العربية و ذابت في الفضاء الافتراضي و طحنتها دكتاتورية فايسبوك و فاشية غوغل نيوز و سدت دور نشر أبوابها و استسلمت لقهر و جبروت أمازون حتى صار بإمكان أي شخص أن يكتب و ينشر دون الحاجة لأن تتقاذفه المكاتب البيروقراطية رغم أن هذا خلق معضلة أخرى هي معضلة الرداءة و اختفاء حواجز التقييم و التصحيح العلمي قبل النشر حتى في العلوم الدقيقة.
هل هي معادلة ممكنة : معادلة التوليف الدقيق بين الحفاظ على الحامل الورقي الذي عانقت به البشرية عنان السماء و صنعت به ذكاء اصطناعيا يعجز ذكاء البشر.. دون الغرق في العالم الرقمي الرهيب الذي صار يدفع ببعض مؤيديه إلى حد المطالبة بحرق تراث البشرية الموجود على المخطوطات و الكتب الورقية للانخراط الكامل في العصر الافتراضي اللاواقعي و نسيان ازمنة ابدع فيها بالريشة فلاسفة و علماء و ادباء هم انفسهم من تتم رقمنة و تخزين اعمالهم الخالدة لتصبح مجرد صفحات على الاجهزة السحابية و مراكز التخزين الضخمة !
هي مفارقة عجيبة خلقها تمرد المضمون الرقمي على أصوله الورقية خصوصا بعد ان انجرفت المتاحف و مراكز التراث و التاريخ في تيار الرقمنة إلى حد جعل البعض يعلن عن خوف هستيري من تضييع البشرية لكل المعرفة التي راكمتها و عودتها لعصر الظلمات إذا ما حصل و تم التخلي النهائي عن المنشور الورقي فأدنى عطل أو كارثة تصيب شبكات المعلومات يعني ضياع كل شيء إلا إن تم التوصل للحل السحري لتخزين رقمي لا يضيع عبر القرون .