محمد العولي
الموضوع الذي سأناقشه متعلق بالجدل الدائر حول قضية الحرية الجنسية بين ذكر وأنثى، وستؤطر هذه المناقشة الأسئلة التالية:
ـ من أين يستمد طرح مسألة الحرية الجنسية للنقاش المجتمعي مشروعيته وضرورته؟
ـ لماذا نحن في حاجة إلى تأطير قانوني شامل ومندمج لمختلف الملابسات المحيطة والمكونة لمطلب
الحرية الجنسية (المقدمات، المحاذير والمنزلقات، والعواقب)؟
ـ لماذا العقد ضروري في حالة العلاقة الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج؟
إن الواقع الذي لا ينكره أحد، هو أن ثقافة المغاربة حول الزواج وقع فيها تغييرات عميقة، بحيث هناك مثلا عزوف واتجاه نحو تأخير سن الزواج لدى الإناث والذكور معا، فمتوسط سن الزواج في المغرب هو 28 سنة، وأنا صراحة الذي يرعبني في هذا المعدل أكثر، هم الذين تعدوا سن 35 سنة بدون زواج، إذ كيف يعقل أن يحرم هؤلاء من أكثر من 20 سنة من حقهم البيولوجي في الممارسة الجنسية، وما هي المضاعفات النفسية والاجتماعية لهذه الحالة على أصحابها؟... يرافق ذلك ارتفاع نسب الطلاق والفشل الأسري، وانتشار للفواحش حتى في صفوف المتزوجين، وأيضا تقبل وتحمل الأسر لبعض السلوكات الجنسية لأبنائهم وبناتهم خارج إطار الزواج.
وفي هذا السياق، صرحت عائشة الشنة رئيسة جمعية الأمهات العازبات في حوار لها مع صحيفة إسبانية ،أنه أزيد من 5 آلاف طفل في بلادنا يتم التخلي عنهم سنويا، منهم 24 طفل يتم رميهم يوميا في القمامة.
وتجذر الإشارة في هذا الباب، أن الثقافة الجنسية للمغاربة خارج إطار الزواج هي الأخرى وقع فيها تضخم وتكاثف يتزايدان، خاصة مع تحول الجنس والزواج نفسه إلى صناعة عالية الدقة عند الرجال والنساء، الأمر الذي أصبح يهدد الزواج والأسرة، بتعرض الزوجين لشتى أنواع الضغوط الجنسية وأحيانا لإغراءات، بحيث تشحن الذوات كثيرا بصور ونماذج، وبشروط ومواصفات لم تعد تتوفر في الزوجين بفعل عوامل الزمن وضغط الحياة، ومسؤوليات الأسرة من إنجاب وتربية ورعاية.
وكذلك هي الفاحشة موجودة في المجتمع وبشكل مقلق، وقاعدتها عريضة وتزداد اتساعا، والكثير من المغاربة متعايشين معها ويبررونها ويتأولون لها، وبقيتهم ممن لا يجدون إلى النكاح سبيلا العادة السرية ملجأهم. كما أن نسب المغاربة الذين يلجون المواقع الإباحية عالية جدا... ناهيك عن أن الكثير من الراشدين مثلا الذين لا يقوون لأسباب مادية أو لا يرغبون لأسباب ثقافية نفسية في تحمل مسؤولية الزواج الميثاق الغليظ، فهم لا يتخلون عن رغباتهم الفطرية، ويبحثون ولو على جنس حافي.
ولا ننسى أيضا، أن أهم أسباب تأخر سن الزواج لدى الأنثى ترجع إلى تفكك جزء كبير من الفكر الذكوري، وأيضا إلى تعميم تعليم الأنثى، كما أن الواقع التقني والإنتاجي سهل متاعب الحياة، فدلل الصعاب أمامها، وتحررت من أدوار كانت تقوم بها وتحرمها من حقها في التعلم والمشاركة إلى جانب الذكر في البناء والتنمية، فعلى سبيل المثال، معظم القرى الآن تتوفر الكهرباء وارتفاع نسب الربط باشبكة المائية، وتعرف تطورا في وسائل النقل والشبكة الطرقية، رافقه تحسن لشروط العيش في المدن، ناهيك عن يقظة أسرية عامة حول ضرورة تعليم الأنثى. يضاف إلى ذلك تفكك الكثير من المؤسسات والأعراف التقليدية التي كانت تحتضن الأنثى ( الإخوان والأعمام بعد وفاة الأب، الزوج...)، ولهذا فهي الآن أكثر وعيا بضرورة الاعتماد على الذات في حالة فشل الأسرة، أو الطلاق، و ولهذا تراجعت الثقة في الأزواج من جهة، والأبناء من جهة ثانية، كضمانة للتقاعد في وقت العجز، علاوة كذلك على الضغط الذي بدأ يمارس عليها في ظل استفادتها من مجموعة من الحقوق، ومطالبتها بالمساواة، إضافة إلى تحملها أعباء الإخوة وعجز الوالدين. كل هذا زاد من تقويتها أكثر على المثابرة والعمل والنجاح، وقد زحف هذا التفكير بحكم كثافته في الواقع حتى عند البنيات الصغيرات، ولا أدل على ذلك من التفوق الدراسي للأنثى على حساب الذكور، وأخيرا نشير إلى تأخر سن ولوجها إلى الوظيفة.... وممكن أن يكون لترخيص تعدد الزوجات بدون موافقة الزوجة الأولى له أثره كذلك.
إذا فنحن فعلا أمام واقع حال معضل، أخذ معه السلوك الجنسي للمغاربة مجراه الطبيعي جدا. فهل يعقل أن لا يحمل الإسلام أي علاج لواقع الحال هذا؟
إن المنطق العام الذي تتفاعل من خلاله التيارات الإسلامية والمحافظة مع دعاوى الحداثيين في قضية الحرية الجنسية، وإن كان ظاهره سليم ومقبول في الوعي الجمعي للمغاربة ، فإن خطاب دعوي رقائقي بالكاد يلامس الجوانب العاطفية، ولا يواجه الجوانب المادية المتحكمة في القضية، لأنه في تقديري مهما تم توظيف الخطاب الدعوي و الوعظي في التصدي لهذه الدعاوي، بل حتى العمل الإحساني المتمثل في دعم الشباب المقبل على الزواج ، لن تفلح إلا في التخفيف، أمام موضوع له ارتباط بغرائز الإنسان، والتي مع كامل الأسف لا يستطيع تصريفها بالزواج، لأهم اعتبار هو غياب المقدرة المادية والمعنوية للدخول في ميثاق الزواج الغليظ.
ورغم الجهود، فإن هناك قصور واضح من طرف الدعاة والتيارات الإسلامية، الذين لم يستوعبوا أننا أمام إطار اجتماعي واقتصادي وتقني وثقافي مغاير للماضي، ولم يتمكنوا من تجديد تصوراتهم وخطاباتهم، واكتشاف البدائل من القرآن الكريم، فتركت بالتالي مساحات فراغ توسعت بالفاحشة، وهي تؤصل بمشاريع ورأى علمانية مشوشة ، ومن الواضح أن معركتكم مع علمانيي الحرية الجنسية مرحليا غير مربوحة.
وأنا أدعوا ألا يتم المراهنة مع هذه الأجيال على الخطاب الوعظي، فهذا الجيل برغماتي ومادي وواقعي، ثم سكيزوفريني، سيصرح أمام الميكروطريطوار والكامرات أنه ضد الحرية الجنسية، وأن هذا ليس من ديننا وو... لكنه يتربص الفرص غير المراقبة للحصول على نصيب من المتعة الجنسية، بل إن بعض من هذا الجيل ـ وهم قلة طبعاـ من هم مستعدون من أجل الموت غرقا في البحر بحثا عن الجنس في أوربا، ولدينا دليل آخر في المراهقين الذين أغرت بهم الجماعات الإرهابية بدواعي الحصول على الحور العين، والزواج والسبايا ملك اليمين كما هي مشوهة في تصوراتهم.
وأحببت أن أنبه إلى أن الكثير من المنتسبين للتيار المحافظ ، رغم مخاصمتهم للتيار الحداثي في هذه الدعوة بالذات، إلا أنه يستمد من دعاوى خصمه بعضا من شرعية الاستمرار في الذهن الجماعي للعوام المتدينين بالوراثة، وبالتالي استغلالها سياسيا وفقهيا، ولكن التيار المحافظ هذا، لا قابلية له للإنفتاح على الأصوات التنويرية، لخشيته من فقدان شرعية الخطاب، وبالتالي تفكك رأسماله من الحواضن الشعبية، كما أن أعلامه ورموزه غير مستعدين للتنازل والتخلي عن كل هذه الحضوة والمكتسبات والامتيازات...
و طبعا استمداد بعض من الشرعية أثناء التدافع بين التيارات العلمانية في ظل فشل مشاريع التقارب، أمر يمكن ملاحظته بسهولة جدا في الخطاب المحافظ، خاصة الذين يستغلون كل الخرجات الإعلامية والمواقف السياسية لدعاة الحرية الجنسية ويتصيدون إخفاقاتهم البلاغية، ثم يعرضونها عرضا على تراثهم الديني، فينسفونها نسفا في ذهنية المغربي المسلم المحافظ... وهو بالتأكيد يمنحهم مزيدا من شرعية التواجد والتأثير شعبيا، كل هذا فقط لتغطية إخفاقهم في معالجة قضية تأخر سن الزواج والعزوف عنه بكل حيثياتها وملابساتها، والاكتفاء فقط باجترار نفس معزوفة الخطاب الكلاسيكي ، كون الزواج عفة وصون للأسرة والمجتمع وإرضاء للخالق تعالى، وأنه هو الأصل وووو وهذه أمور لا يتناطح عليها عنزان و لا يختلف عليها كل أهل الأرض، والحداثيين أكثر اقتناعا بذلك. ولكن الآن نحن أمام واقع حال جديد تماما، وتتداخل في ثناياه الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية والنفسية وحتى الصحية.
إننا فعلا مسؤولون ومدعوون جميعا بدون استثناء، ـ خاصة في ظل دخول ساكنتنا مرحلة الانتقال الديموغرافي بكل تحدياتها ـ، عن إيجاد سبل معالجة هذه الظواهر، وليس أن ندفن رؤوسنا داخل المادة الصفراء ونفس الكتب، ونفس التصورات، فذلك بالتأكيد لا يملك أي حل لمشاكل غريبة كممارسة الجنس عن بعد مثلا، وإلا سمحنا للسلوك الجنسي أن يتخذ مجراه الطبيعي .
ودائما السؤال يبقى مطروحا، أين كنتم أيها الدعاة والعلماء، أين كنتم أيها الإسلاميون الذين وضعتم أنفسكم حماة للدين وأخلاق وقيم المسلمين؟ أين كنتم حتى وصل المجتمع المغربي المسلم إلى هذه الحالة من انتشار للفواحش المحرمة بنص القرآن؟
ومن الجانب الآخر، لابد أن أعترف أولا بأن الخطاب الحداثي حينما ينطلق من الواقع ويعتمد العقل، يكون أقرب إلى الفطرة و التصور الديني، وهو ما يسمى بالعقلانية والمصداقية على أرض الواقع. ولكن حينما يكون منطلقه هو الهوى أو مصالح سياسية واقتصادية، أو نقل لتجارب خارجية إلى بيئة مغربية مسلمة مختلفة تماما، فإن الدعاوي مثل الحرية الجنسية خارج إطار الزواج بين راشدين في الفضاء الخاص هكذا بإطلاقها على عواهنها، تكون دعاوي مفلسة وخطيرة على السلم الاجتماعي والأمن الأخلاقي والبعد القيمي الهوياتي للمغاربة والمسلمين. ومن جانب ثاني فالتيار العلماني الناشط في قضية الحرية الجنسية هو في الواقع يخوض ويتوسع في مساحات الفراغ أو الظل التي تركها لهم الكثير من الفقه الإسلامي الموروث.
والآن فلنذهب افتراضا مع مبررات العلمانيين للحرية الجنسية الرضائية، بأن يعطى لها بعدا قانونيا برفع التجريم عنها وتنظيمها، على اعتبار أنها عند بعضهم تدخل ضمن الحريات الفردية للأشخاص دون حق للدولة ولا للمجتمع في التدخل، ولكن ماذا عن العواقب الصحية (الأمراض الجنسية) والاجتماعية (الأمهات العازبات) والاستقرار الأسري(الطلاق وتشرد الأبناء)، والحالة النفسية للوالدين، والأبعاد الأمنية المترتبة عن هذا المطلب؟. وطبعا هذه الأزمات ستفرض على الدولة التدخل، والتدخل معناه ميزانيات ومس بخيرات جميع المواطنين وضرائبهم، ثم هل إلغاء تجريم العلاقات الجنسية يكون حصرا على المغاربة، أم حتى في حالة ممارسة جنسية لمغاربة مع أجانب؟ ثم ما هي الضوابط والمحددات لممارسة جنسية رضائية وأخرى غير رضائية؟ لأن الممارسة الجنسية الرضائية تفترض وجود اتفاق بين طرفين تراضيا عليه، وفي حالة حصول مشكل وشكاية من إحدى المتفقين ( اغتصاب، تحرش، ابتزاز، احتيال، استغلال، استدراج...) على أي أساس سيحتكم الطرفين، وعلى أي أساس ستتدخل السلطة؟ وهو ما يفترض على الأقل وجود عقد لهذه الممارسة الجنسية الرضائية ( والعقد شريعة المتعاقدين).
ثم ما السبيل إلى إيجاد روابط بين مطلب تعديل القانون الجنائي المتعلق بتجريم العلاقات الجنسية الرضائية أو إلغائه، وبين حل إشكالات تأخر سن الزواج لدى الشباب؟ وذلك للاطمئنان. وهل هو حل معقول ومسؤول لتحقيق حقوق المواطنين الجنسية الفردية والجماعية ؟ ثم لماذا الحرية الجنسية هي حقوق فردية، ولا نقول أنها حقوق جماعية مشتركة، بحكم مقدماتها وملابساتها وتبعاتها؟ ثم ما هي حقوق الأطفال الذين سيولدون خارج مؤسسة الزواج؟ وما هي حقوق الوالدين على الأبناء في هذه المسألة؟ وهي عواقب سيكون لها بالتأكيد تبعات على موضوع الإرث...
إن الزواج نفسه علاقة جنسية رضائية، فالزوج لا يفرض بالقوة على زوجته أن تمارس معه، والزوجة لا تفرض بالقوة على زوجها أن يمارس معها، وأي علاقة بين ذكر وأنثى قائمة على الاعجاب والعشق، تريد أن تنتهي إلى ممارسة جنسية لإطفاء نار الشهوة، وبناء الشوق ومنه العشرة. وأنا أقول إذا كان لابد من تأطير قانوني للعلاقات الجنسية الرضائية في اتجاه إلغاء تجريمها، يجب أن يكون تأطيرا قانونيا متكاملا محيطا بكل ملابسات العملية (كيف تبدأ العلاقة بدون أن تكون تحرش؟ كيف تؤسس بدون ابتزاز وتحايل واستغلال؟ وهنا لا بد من فتح نقاش حول العلاقة بين النضج الاجتماعي والصحة النفسية للشخص ونضجه الجنسي، ومدى وعيه بما هو مقبل عليه، وما هي حقوق الوالدين عليه مادام كان لهم معه التزامات وحقوق؟ كيف سيتم مواجهة الوضع في حالة حصول الحمل أو في حالة الإنجاب؟...
لهذا كله أنا أدعوا على الأقل أن تكون هذه العلاقة الجنسية الرضائية قائمة على عقد بين الجنسين؟
فلماذا العقد ضروري في حالة العلاقة الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج؟، أولا فالعقد على الأقل يمنح التراضي نصيبا من المصداقية والمسؤولية والثقة، وهي أرضية أولى مساعدة جدا في حالة ما توفرت مع طول العشرة والألفة الرغبة والمقدرة على قلب العقد الرضائي إلى عقد زواج ميثاق غليظ. ثم أن العلاقات الجنسية الرضائية ممكن أن تكون فاحشة بين المحارم التي لا يمكن أن تتحول إلى زواج مطلقا، وممكن أن تكون جماعية (السفاح)، وهنا إذا ما تجاوزوا أو تجاوزن أربعة تخرج من الإطار الخاص إلى العلنية لأن ثلاثة أشخاص يعد تجمهرا، ولم تعد علاقة حميمية بين شخصين، فهل ستصبح بذلك علاقة تسمح للسلطة بالتدخل أم لا؟... ومعنى هذا أن الدولة هل يمكنها أن تتخلى عن سلطة المراقبة لكي تطمئن على هذه العلاقة أن تبقى غير علنية أم لا؟...ثم ما المعمول في حالة تسرب هذه العلاقة الرضائية وشاهدها الناس على مواقع الإنترنت، هل تبقى سرية أم نعتبرها علنية تستوجب تدخل الدولة؟ ثم ماذا لو بدأت الممارسة رضائية وانتهت باغتصاب؟ أو إلى فض بكارة الأنثى؟
في نفس الاتجاه، ما المقصود بالفضاء الخاص في حالة ممارسة جنسية رضائية؟ لأننا فعلا في حاجة إلى تدقيق كل شيء، إذا أردنا أن نكون عقلانيين ومنطقيين. ولنفترض مثلا أن علاقة جنسية خارج إطار الزواج تتم داخل منزل الوالدين أثناء غيابهما وبدون موافقتهما، هل يعتبر ذلك فضاء خاص، أم أن شكوى ذوي الحقوق في تلك الدار من حقهم فضح العلاقة والمطالبة بحقهم؟ ولنفترض مثالا ثانيا علاقة جنسية رضائية تتم داخل سيارة تتوفر على ستائر، لكن السيارة مركونة في مكان عام؟
ومن الإشكالات المطروحة كذلك، متى يمكن اعتبار علاقة جنسية رضائية خارج إطار الزواج لأغراض تجارية، وأخرى حميمية؟ لأن الأولى مادامت تجارة، وإذا ما وافق عليها المجتمع عن طريق البرلمان والدولة وضبطت بقانون، هل يلزمها مراقبة وضرائب أم تحسب ضمن القطاع غير المهيكل؟ أي هل سيتم متابعتها مثل محاربة السجائر والخمور المهربة؟.
إليكم الآن باختصار بعض السمات العامة الغالبة على الجدل حول قضية الحرية الجنسية بين المحافظين والحداثيين، وهي كالتالي: ـ نشر المغالطات - الحسابات والمزايدات السياسية. - الترقب والتربص بين الدولة و التيارات المحافظة وحتى بعض التيارات التحررية. - حذر الدولة من أن أي تجديد في المسألة، قد توظفه الجماعات المحافظة لمزيد من الاستقطاب خاصة وأن
عقلية المغاربة محافظة، أي أن توظفه لصالحها في تدافعها مع الدولة حول السلطة عند البعض، وحول
احتكار التأثير الديني على الناس عند البعض الآخر.
- قلق الكثير من المتابعين المغاربة ـ خاصة الذين لا يصوتون في الانتخابات ـ من ضعف أهلية البرلمانيين
في الحسم في قضايا معقدة وخطيرة مثل الحرية الجنسية ومعها الإجهاض.
- مؤشرات ضعيفة جدا حول التقارب الإسلامي العلماني في القضية. - اتهامات متبادلة بين الحداثيين والمحافظين، فالأخيرين يسجل عليهم التضييق على الحريات الفردية وعدم
تقديم الحلول، بينما الحداثيين متهمون بالدعوة إلى تحليل ما حرم الله، وتخريب عفة وأخلاق المغاربة.
- خطاب إقصائي متطرف من بعض المحافظين مثل مطالبة دعاة الحرية الفردية بمغادرة البلد لممارسة حرياتهم...
- خطاب تسطيحي غير عقلاني من طرف كثير من الحداثيين، مثل دعوتهم لإلغاء تجريم الإجهاض
والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج فقط لأن المغاربة يلجؤون إلى ذلك رغم وجود القانون ووضوح موقف الدين من ذلك.
ـ من المبررات التي يقدمها أكثر الحداثيين، في دعوتهم لمراجعة القانون الجنائي المجرم للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، هو ادعائهم أن بعض أجهزة السلطة توظف ذلك لصفية الحسابات مع الأشخاص المزعجين. ويسايرهم بعض المحافظين في ادعائهم.
وفي تقديري أن مداخل الحل المعقول لهذه الوضعية بكل عناصرها وأبعادها، موجود في آيات ملك اليمين المرتبطة بالنكاح، وأنا واحد من الناس الذين لم يطمئنوا للتفسيرات التراثية لملك اليمين لتناقضها مع روح الإسلام، ومناقضتها للعقل، وغرابتها عن الواقع، ولكن للأسف الإسلاميين المحافظين الأكثر قدرة على الاستقطاب، ليست لديهم القابلية ولا المقدرة على تحرير فكرهم من التأويلات التراثية للقرآن، التي ليس فقط لم تعد تتماشى مع مستجدات وإشكالات وهموم العصر، وإنما لأنها مرهقة لكل تغيير. لأنه في جميع الأحوال الشباب في ظل افتقارهم للقدرات المادية والمعنوية والروحية للزواج، يبقون عرضة لأشكال الفواحش المحرمة، والتي تهدد في جميع حالاتها الاستقرار الجنسي والنفسي والاجتماعي والروحي والأخلاقي للإنسان، وهو ما يخلف عواقب لا تساعد على بناء مجتمع لا بالرؤية الحداثية للمشروع المجتمعي، ولا بالرؤية الإسلامية. على النقيض من ذلك تماما فإن التصورات الجديدة لملك اليمين، تحل الإشكال بشكل كبير إن لم يكن جذريا،( طبعا المقال حاليا لا يسمح بمناقشة ملك اليمين في القرآن حسب القراءات المعاصرة، المخالفة تماما للتفسيرات التراثية، ولكن أحيل المهتم لأهم كتاب عالج الموضوع بإحكام وبرؤية جديدة في أحد فصوله وهو:" الدولة والمجتمع هلاك القرى وازدهار المدن" للدكتور المهندس محمد شحرور) وحسب ما أرى، فإن المشوار في هذا الأمر طويل، والشروط الموضوعية مرحليا عندنا لم تتهيأ بعد (هي ممكنة في أوربا حاليا)، ذلك أن الوضعية الجنسية في المغرب غير مستعصية بالشكل الذي تضخم به، والأهم هو بنية العقل المحافظ غير مؤهلة لمباشرة ورش تجديدي بهذا الحجم في هذا الموضوع، ومع كل هذا الصخب، وإذا كان لا مفر من التوجه نحو الحرية الجنسية، يكون شرط العقد بين المتراضين مخرجا عمليا، ولنسمي هذا العقد بما نشاء. ولا ننسى أنه إذا كانت المجتمعات الحديثة تقوم على الحريات الفردية، فإنها أيضا تقوم على التعاقدات.
وعلى سبيل الختم، أنا أتصور أنه لا مفر من الذهاب باتجاه مراجعة القانون الجنائي حول الحريات الفردية ومعه مسألة الإجهاض وأنه توجه صحي وواقعي، و أن هذه المراجعة ستمس معها بالضرورة فصول أخرى من القانون الجنائي والأحوال الشخصية ذات الارتباط بالموضوع، ومن المؤكد أن ما سيتم سنه، لن يكون له أية علاقة بإرضاء أطراف على حساب أخرى، ولكن سيستحضر باليقين الدين والواقع بإمكاناته وإشكالاته الجديدة، ومسار تحولاته، وأتوقع أن تكون المخرجات مطمئنة للقلق المجتمعي، الشبابي والأسري والعائلي خاصة، و كذلك سيكون القانون بإرادة تراعي الدين والحقوق الجنسية للأفراد ثم تستجيب لانتظارات للمجتمع بأبعاد القضية على التنمية البشرية، و طبعا على أمل أن يتهيأ على المدى البعيد الوعي للقبول بفتح نقاش حول التصورات الجديدة لمفهوم ملك اليمين من القرآن كحل جذري رباني للإشكال.