محمد موساوي
يبدوا أن التفكير في سيرورة تقدم البشرية منذ اللحظات الاولى للتواجد البشري على هذه الرقعة الباهتة من الكون، أضحت ضرورة تأملية على كل إنسان يستفزه قلق الواقع المستمر بسبب الكم الهائل من
التحولات التي مست كل الجوانب الحياتية من اقتصاد وسياسة وثقافة ونمط عيش ورؤية للحياة ونظرة للكون منذ بداية البشرية، إننا نعلم بشدة أن لحظات التقدم التي تعرفها البشرية عامة، خصوصا في القرون الثلاثة الاخيرة، لهي نوع من الحماقة العلمية التي لا تعرف معنى التفكير دلالة في النسيج الاجتماعي ولا معنى الحياة من الجانب الروحي والنفسي للإنسان، بل ظل التفكير مرتكز عل موضعة الظواهر، طبيعة كانت أو إنسانية، لكون أن العقل الأداتي يتوجه دوما نحو خلق مسارات من التقدم والتطور المستمر واللانهائي الذي يمس كافة مناحي الواقع الاجتماعي دون مراعاة حميمية الحياة في جانبها الأخلاقي والوجداني والشعوري والنفسي. ربما عصرنا هذا لم يعرف مثيله مقارنة بكافة العصور الغابرة، نظرا لتركيزه الشديد على أهمية العقل والعلم الذي يسعى دوما للسيطرة على الطبيعة، ثم على الإنسان بشكل غير مقصود، لأنه كان يتوق لكي يرخي سدول الحقيقة البهيجة والسعادة اللانهائية على أرض الواقع للإنسان كي يعيش بدون شقاء وبدون عناء جسدي وروحي ونفسي، هاهنا يتضح أنه ثمة شغف فكري وفلسفي وعلمي نحو تحقيق السلم والسعادة والامن والعدالة والمساواة والحرية، أي السعي الدؤوب لتحقيق كل تلك المثل والقيم العليا وجعلها في متناول الجميع في نسيجنا الاجتماعي والواقعي، ذلكم هو الهم المستمر الذي كان يلهم الفكر العلمي والفلسفي والتكنولوجي دوما وأبدا، في كل لحظات التأسيس للمعرفة العلمية المتعددة حول تلك الابعاد المكونة لحياتنا، طبعا هذا العلم والتقدم والتطور حققوا
الكثير من الايجابيات في كل جوانب الحياة المختلفة والمتعددة ، في الاقتصاد وفروا كل ما تشتهيه الذوات، في السياسية وفروا كل أشكال وأنواع الحكم العادلة منها والاشتراكية منها وحتى الديكتاتورية التي ظهرت فجأت في تريخنا المعاصر، ثم في الثقافة حدث ولا حرج من كافة الأشكال والأنماط الثقافية من فنون ومسرح و ترفيه وفن الضحك، أضف إلى ذلك فنون المصارعة السلمية وفنون الشخصيات المتعددة، وثقافات الشوارع، ومن أساليب العيش المختلف، ثم في التكنولوجيا وفروا كل ما كان يعد حلما من قبل، كل ما كان يعد في نظر الإنسان القديم سخافة فكرية حينما يسمعون بكتابات في ذلك الاتجاه، كل ما كان يمكن أن يعد خرافة وخيال فكري وشعري ونثري لو كنا نسمع عنه من قبل دون رؤيته أمامنا، من أقمار اصطناعية ومن أقوى الأسلحة الفتاكة البرية منها والجوية والبحرية، ثم من شاشات التلفاز المتعددة الأشكال، ومن حواسب فائقة القدرة على البشر، ومن هواتف ذكية بأخر صيحات الجديد، أضف إلى ذلك كل وسائل التواصل الاجتماعي المختلف من فيسبوك وتويتر وانستغرام ويوتوب، وقس على ذلك الكثير.....، فعلا كانت قفزات نوعية و ثمينة جدا في كل مجالات العيش الواقعي، في العصر الحديث والعصر المعاصر الذي نعيش فيه هنا والان، كانت تطفو على سطح أيامنا بأقصى درجات الوضوح والصفاء كأنها أشياء بديهية وعادية لا تحتاج لتريث تأملي. لكن هل فعلا تم تحقيق كل ما كان يتوق له الإنسان من سعادة وأمان وسلم وهدوء؟ هل فعلا حققت سعادة الذات وابتعدت عن القلق الذي يساورها من حين إلى أخر؟ أم أن زمننا، رغم ما حققه من رفاهية وزخم مادي عظيم، لم يفلح في تحقيق الأمن النفسي والروحي للإنسان لكي يبتعد عن قلق الحياة الغامض؟، ألا يمكن الحديث في العمق عن قلق أخر يهدد البشرية؟، هو قلق اللااستقرار النفسي والروحي وحتى اللااستقرار الجسدي والحياتي عامة، بسبب ما تم الوصول إليه في زمننا هذا من تقدم وسيولة في النسيج الاجتماعي، مقارنة بالماضي البعيد؟، أي مقارنة بزمن المجتمعات التي كانت تعيش على القنص والصيد أو على الأقل المجتمعات التي لم يكون لها هذا التطور التكنولوجي والعلمي في كل جوانبها؟ أليس هناك فعلا سيولة مستمرة في حياتنا اليومية ولا
يقين وهاج يتسرب إلى كل ذات وعيا منها أو بدون وعي؟ ألا يمكن القول أن إمكانات البقاء على الحياة بصلابة لم تعد توجد في زمنا هذا؟.
لدى فمن سيقرأ هذه السطور يعتقد أنني أشن حربا فكريا وتأمليا على مجتمع المعرفة والتقدم والتطور، بل دعوني أبين لكم بأن ما نعيشه هنا والأن، هو نوع من القلق الوجودي في حلة جديدة غير الذي عاهدناه عند باقي البشر في غابر الأزمان، فعلا مجتمعاتنا المعاصرة المتقدمة في كل المجالات خلقت ووفرت كل ما لم يتصوره أي بشر من قبل، في كل مناحي الحياة لا داعي للتفصيل فيها، بينما في المقابل خلقت إنسانا جديدا و كيانا جديدا، كما ساهمت في ظهور إنسان اللايقين، إنسان التردد والشك، إنسان ذو وجوه متعددة، إنسان لا أحادي الشخصيةـ إنسان ربما غير متيقن أنه سوف يستقر بسلم وبهدوء ضمت جائحات العصر المتعددة، دون ما أن ينتابه قلق الموت وقلق الفناء الفجائي، أو قلق النهاية الفجائية التي أصبحت تنتشر في عصرنا هذا، إنسان اللااستقرار، هذا الانسان الذي ربما لا يشعر بذلك ولا يعطي أهمية لكل ذلك القلق والغموض الذي أصبح يلفنا من كل جانب، بسبب التقنية والتكنولوجيا، أي نعم، أن هذه الأخيرة جعلت من حياتنا حياة سائلة جدا، بمعنى مائعة وغير مستقرة وغير متيقنة، إنها تجعل الذات تشك في أن تستمر في الوجود بضع أيام، ربما سوف يرى البعض أن هذا غريب، لكن هذا هو واقع الحال حينما نعمق النظر في الواقع ونسبر أعماق حياتنا الاجتماعية.
فلنلقي نظرة أولا على إنسان الذي كان يقطن في غابر الأزمان وبعدها سوف نعود لكي نعمق النظر أكثر في سيولة إنسان العصر المعاصر. نرى أن الإنسان من قبل في المجتمعات القديمة التي لم يكون لها أي تقدم وتطور في جوانب الحياة المشتركة كانت مجتمعات عادية، كانت تبحث فقط على البقاء في الحياة والاستمرارية الوجودية، كما كان ذلك يجعلها تبحث عن موارد للعيش والاستمرارية والدفاع عن النفس من غرباء أو من قطاع الطرق، أو الدفاع عن النفس مخافة من الحيوانات المفترسة، متخذة احتياطات احترازية على قدر استطاعتها وعلى قدر تقدمها، ثم كان ينتابها قلق الطبيعة جراء الظواهر الطبيعية
كالزلازل والباركن والاعاصير، الشيء الذي جعلها تشكل بعض المعتقدات، وتشكل بعض الطواطم وتقديسها إيمانا منها أنه سوف يبعد عنهم هذا التقديس والممارسة الطقوسية غضب الطبيعة وهولها، إذن يتضح أن قلق الانسان في الماضي، كان واضح جدا وكان محددا نوعيا، في هول وغضب الطبيعة والخوف من بعض الكائنات الأخرى الغريبة، وكان هناك استقرار دائم وصلابة في العيش الواقعي، أي لم تكن هناك مهددات أخرى تجعلهم لا يعيشون بسلام رغم العيش البسيط، بل لم تكون ثمة أي أسلحة فتاكة ولا أي مروحيات حربية وهاجة، ولا قنابل نووية لا تبقي ولا تدر، ولا معامل اقتصادية صناعية تحصد الكثير من الأرواح بفجأة بسبب تسريب غاز ما أو شيء من هذا القبيل، بل كانت حياتهم يعمها نوعا من البساطة والسلاسة، رغم عدم تقدمهم في الجوانب المادية والرفاهية، بل على الاقل كان هناك استقرار روحي وجسدي ونفسي صلب إلى حد ما وليس هش، لا يعني هذا أنهم كانوا في سعادة نهائية بل على الأقل لم يكن لديهم ذلك الهول والتعدد في كل أشكال الحياة التي يمكن أن تجعلهم يعيشون قلق الفناء الجماعي بشكل فجائي. كما كانت تصيبهم كذلك أوبئة فتاكة تحصد الأرواح، ونظرا لعدم التقدم العلمي عندم لم تكن لديهم القدرة على معرفة ماذا سوف يفعلون مع هذا الوباء أو ذاك، لكن كانت أوبئة تأتي من زمن إلى زمن، وليس باستمرارية كما هو الحال لزمننا هذا.
إذن، ما يهمنا في هذا التحليل هو توضيح أنه رغم بساطة عيش تلك المجتمعات قبل الحديثة وعدم تقدمهم في العلوم والمعرفة وما إلى ذلك، فإنهم في جانب أخر كانت حياتهم صلبة نوعا ما، أي كان هناك استقرار نوعي، وقلق جزئي فقط من بعض الظواهر الطبيعية التي تظهر من حين إلى أخر، أو حتمية الموت التي كانت تلحقهم والتي هي حقيقة وجودية لا مناص منها في كل الازمان.
فلنعد الان إلى إنسان الحياة المعاصرة، إلى الإنسان السائل الذي لا يضمن استقراره في الحياة السائلة ذاتها التي لم تعد ترتكن إلى صلابة العيش في الاقتصاد وفي الثقافة وفي التنظيم الاجتماعي، لدى هنا ما يهمنا هو الجزء الذي يتعلق بهشاشة حياة الانسان المعاصر، أي سيولتها في الجانب المتعلق
بفجائية الفناء والموت التي يمكن أن تحدث ، فسرعان ما يمكن أن يفنى الإنسان في الحين بدون علمه وبدون وعي منه، لدى فنحن كل واحد منا يحمل نقيضه في الحياة الذي هو الهاتف الذكي، هذا أضعف فتاك يمكن أن يحصد الذات، لا يجب أن يفهم من كلامي هذا، أنني أحارب هذه المنتجات التكنولوجية بل فقط أبين هشاشة الانسان حولها في حالة حدوث شيء ما بها. لكي أوضح أكثر على سبيل المثال، إنني لا أقصد أن زمننا هذا لا يستطيع القضاء على الأمراض أو شيء من هذا القبيل، بحجة أن التقدم الطبي مهول يوفر الحياة لمن كان على شفة حفرة تجاه العدم، مما سوف أكون متناقض في كلامي، بل هنا أركز على سيولة الحياة واللااستقرار اليقيني من الجانب الفجائي منها، والمتعلق بالأحداث والانفجارات الفجاءية في الحياة التي تؤدي بالأشخاص في الحين نحو العدم والموت، دعوني أتحدث على أن حياتنا غير مستقرة يشوبها قلق مستمر، كل ذلك مترجم في الكثير من الأبعاد المادية خصوصا التي نعيشها، دعوني كذلك أتحدث مثلا على قوة الأسلحة الفتاكة والقنابل النووية الكبرى والهيلوكوبترات الحربية العظيمة، إنها بعد من أبعاد الخراب تجعل الحياة هشة وغير مستمرة، لأنه سرعان ما يمكن أن تنشب حرب ما، ويتم استخدامها فجأة لتفني الحياة لأكثرية الاشخاص الذين تجدهم كانوا يخططون لمستقبل زاهر في حياتهم سواء من خلال الدراسة التي يتابعونها أو من خلال المشاريع التي ينجزونها، ثم دعوني أحدثكم على المعامل والشركات الكبرى التي يعمل فيها أهوال كبرى من البشر الذين يتوقون لرسم حياة لمستقبلهم، ففجأة يختفي واحد منهم أو أكثر إما بسبب خطأ في جهاز التحكم في الآلة أو بسبب إنفجاز مفعل نووي ما أو غاز ما، كما هو الحال لحادثة تشيرنوبل العظيمة كحادثة نووية إشعاعية وقعت بالمفاعل النووية، التي أودت بحياة الآلف من الناس في القرن العشرين، بالتحديد 26 أبريل 1986 عندما انفجرت إحدى المفاعل الأربعة لمدينة تشرنوبيل التي كانت آنذاك تابعة للاتحاد السوفياتي، حيت تسرب الغاز وأخنق كل من كان في جوانبه القريبة، ثم دعوني أتحدث لكم على هول الطائرات التي فعلا هي كلها ايجابية ومفيدة وسهلت التنقل والسفر والهجرة وجعلت العالم قريب جدا مسافة ومكانا وزمانا، لكن في المقابل إنها تجعل من ركابها أناس سائلين غير مستقرين، حيث في أي لحظة يمكن أن يحدث خلل ما في المحرك، وتنفجر أو
تسقط أرضا، وتؤدي بحياة الناس نحو الهاوية والموت، ثم أخيرا دعوني أتحدث عن شيء ربما هو ونيس كل شخص منا في هذه المعمورة، إنني أقصد الهاتف الذكي، أعتبره أنه الونيس الدائم أو إن صح التعبير هو العائلة المعاصرة الافتراضية التي خلقت حياة جديدة وسعادة جديدة للأشخاص، وخلقت أسر افتراضية غير معروفة في الواقع، أو يمكن أن نقول عليه مجازيا الزوجة الافتراضية الثانية للرجل، ثم الزوج الافتراضي الثاني للمرأة، ذلك في أيام العزلة والوحدة، لدى فهو النقيض للذات وللحياة المستقرة والمنظمة والصلبة، إنه الموت الخفي الذي يرافقنا دائماـ حتى في نومنا نضعه تحت الوسادة، أليس هذا الهاتف الذكي رغم ما له من مزايا عظمى وكبرى، يمكن في أي لحظة فجائية أن يؤدي بحياة الانسان نحو المجهول نحو الموت، في حالة ما انفجر عليه، وطبعا قد حدث هذا بشكل كبير جدا للكثير من الاشخاص، تجد شخص ما كان يدرس أو يقرأ فيه، فسرعان ما ينفجر عليه، ثم تجد شخص أخر كان غارق في التواصل الافتراضي من الاصدقاء وحينما يأتي للنوم يضعه أمامه حتى تقع الواقعة ليلا وينفجر، إنها حالات عايناها باستمرار عبر الصور والفيديوهات التي نشاهدها حول ذلك.
إذن أمام هذا الكم الهائل من المعطيات والتبريرات الدقيقة، أليس نحن فعلا نعيش حالة قلق من نوعية جديدة، قلق الموت الفجائي والانقراض الجماعي، والاندثار الكوني، قلق بسبب هذه السيولة الكبيرة التي أضحينا نعيشها هنا والان في زمننا المعاصر، بسبب هذا التقدم الضخم واللاأخلاقي الذي لازم تاريخنا منذ قرنين من الزمن، أليس اللايقين واللااستقرار هو الحقيقة الثانية بعد حقيقة الموت وحتميته في راهننا هذا. لدى من هنا يتجلى أن قلق العصر المعاصر هو خطير جدا، غير معروف وغير محدد وغير قصدي و غير مرئي، إنه سائل جدا يصعب القبض عليه، لا يمكننا التحكم فيه رغم عظمة العقل العلمي المعاصر، لأن الآلة والتقنية خرجت من سيطرتنا وأضحت هي المسيطرة على الانسان كما يؤكد هايدجر في كتاباته حول التقنية والميتافيزيقا.