المهدي محمد
لقد استرقت غزّة هذه الأيام الأضواء والاهتمام من كل وسائل الإعلام العربية و العالمية،جاعلة من الربيع السوري الدامي الاهتمام الثاني لديهـا،وذلك بسبب الاعتداء الإسرائيلي الظالم على أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم،هذا الاعتداء الغاشم الذي خلّف العشرات من الشهداء و الجرحى والمشردين.ولا ريب أن توقيت هذا العدوان جاء وفق أجندة إسرائيلية أمريكية مدروسة ومحددة قِـبَلا ، مما يعطيه دلالات خاصة ويجعله مفعما بالكثير من الرسائل المعلنة و المبطنة إلى كل أبناء المنطقة ، وخاصة العرب . فتوقيت العدوان جاء عقب انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية "المباركة" التي باركت و كرست باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية لعهدة ثانية،كما أنه جاء عقب ثورات أو انتفاضات الربيع العربي في بعض دول المنطقة التي جاءت بأنظمة جديدة مخالفة للتي سادت وحكمت من قبل، وخاصة في مصر التي تربطها بإسرائيل علاقات استراتيجية وتفاهمات أمنية كنتيجة لإتفاقية "كامب ديفيد" المشؤومة، هذا بالإضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية، التي جعلت دائما من الدم الفلسطيني وقودا لها،يتنافس المرشحون الصهاينة في إراقته استمالةً للناخبين وكسبا لأصواتهم .
إن اختيار هذا التوقيت للعدوان الإسرائيلي على غزة يدعو إلى وضع العديد من التساؤلات والاستفهامات حول الأهداف والمرامي الحقيقية التي يسعى قادة إسرائيل إلى تحقيقها من وراءه.
- فهل صحيح أن إسرائيل ترمي من وراء عدوانها إلى القضاء على حماس ومقاومتها المسلحة كما يزعم قادتها ؟
- وهل تسعى من وراء ذلك إلى تأمين إسرائيل ومواطنيها من صواريخ المقاومة التي يبدو أنها أضحت قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي ،بما في ذلك القدس المحتلة ؟
- أم أن هناك أهدافا غير معلنة يمكن الاستدلال عليها من خلال قراءتنا للواقع ودلالات التوقيت ؟؟
لعل من أهم أهداف العدوان الإسرائيلي وفي هذا التوقيت بالذات، هو جسّ نبض الشارع العربي بعد ثورات الربيع العربي، وقياس مدى ردّة الفعل على هذا العدوان ، لأن هذا الهدف سيمنح قادة إسرائيل بالإضافة إلى قياس مدى قسوة وعمق هجومها على غزة،مؤشرا مهمـا جدا ، وهو قياس مدى إمكانية بقاء إسرائيل في المرتبة الأولى فيما يخص التفوق العسكري، ومدى الحفاظ على اليد الطولى في المنطقة العربية كلها، تفوق تفرض من خلاله أجندتها على الآخرين،وتُشَـرْعِـنُ على الدوام عدوانها على أنه دفاع مشروع عن النفس ،كما دأبت على ذلك كل مرة بمباركة غربية أمريكية فاضحة،هذا دون أن تجد من يوقفها عند حدهـا .
غير أن الذي نستغرب له – مع الأسف- ،هو أن يقتصر الموقف العربي -- في عزّ ربيعه المبارك - على الرفض والتنديد والإدانة اللفظية، بعيدا عن الفعل الحقيقي الذي يمس ويهدد مصالح الغرب وصنيعته "إسرائيل" .
ولكن يبقى أهم شيء تريد إسرائيل اختباره من خلال عدوانها على غزة، هو معرفة ردّة فعل القيادة المصرية الجديدة ، والشارع المصري،خاصة بعدما أعلن الرئيس محمد مرسي أكثر من مرة وقوفه إلى
جانب الشعب الفلسطيني في غزة وتضامنه الكامل مع القطاع، ودعمه المادي و المعنوي لكل سكان غزة، والعمل بشتى الطرق لكسر الحصار عنهم .
ولذلك فإسرائيل تريد معرفة كيف سيتعامل رئيس "الثورة" المصرية والداعم الرئيسي للفلسطينيين في أول اختبار حقيقي له. كما أن الصهاينة يسعون أيضًا إلى إرسال رسالة للجانب المصري والتنظيمات الجهادية في سيناء مضمونها أن إسرائيل لا تزال متواجدة هناك وبقوة، وأنها قادرة على الإبقاء على حالة التوتر في سيناء قدر ما تشاء ،لكي تنشغل بها القيادة المصرية وتنفض يدها من القضية الفلسطينية بشكل كامل، فيما تتفرغ فيه إسرائيل للقيام بعمل عسكري عدواني آخر على إيران أو حزب الله، ومن الممكن أن يكون على مصر نفسهـا إذا توترت الأوضاع بشكل كبير هنـاك.
وغير خاف أيضا ،أن إسرائيل وأمريكا تسعيان دائما إلى التشويش على الربيع العربي الذي يحط رحاله في هذه الفترة بسوريا ، التي يجاهد ثوارها الأحرار على إسقاط قلعة من قلاع القهر و الديكتاتورية العربية في المنطقة، والتي لطالما لعبت دور الحارس الأمين لحدود وأمن إسرائيل ،حيث لم يطلق ولو رصاصة واحدة على هذا الكيان منذ أزيد من أربعين سنـة..وقد آثرت إسرائيل التنغيص على أبناء الشام وكل أحرار العرب وإخماد فرحتهم بقرب انهيار نظام الأسد، عقب الانجازات الكبيرة و المتتالية التي يحققها الثوار على الأرض.
كما أنه من غير المستبعد أيضا أن يكون من بين أهداف العدوان الإسرائيلي صرف الانتباه عن ربيع الأردن الذي يبدو أنه لا يزال لم يرسو على بـرّ ،والذي عرف بعد قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات ، تصعيد خطيرا بلغ درجة المطالبة بإسقاط النظام إن هو لم يعمل على إعادة الأمور إلى نصابها والعمل على استرداد الأموال المنهوبة والمهربة إلى خارج البلاد، إن الدعوة إلى إسقاط النظام في الأردن تمس في العمق استراتيجية أمن إسرائيل التي تربطها بالأردن إتفاقية سلام الموقعة بوادي عربة على عهد الملك الحسين بن طلال،والتي إن تم تعليقها أو إلغاؤهـا فستكون بمثابة صفعة قوية لإسرائيل التي ستتعرى خاصرتها من الجهة الشرقية ، مما سيقلب استراتيجيتها الأمنية رأسا على عقب وقد يهدد كيانها برمته، علمـا أن لا أحد يمكن أن يتكهن بمن ستأتي به رياح الربيع العربي إلى الحكـم ، وكيف سيكون تعامله اتجاه إسرائيل، وخاصة إذا علمنا أن أعدى أعداء إسرائيل من الإخوان المسلمين يشكلون القوة الأولى في الأردن ،وقد يجدون أنفسهم فجـأة في السلطة إن تم طرح مسألة الحكم هناك ،وهذا من أشد السيناريوهات قتامة ورعبا لحكام إسرائيـل .
وأيا كانت أهداف إسرائيل من هذا العدوان، فإن على الساسة و العسكر في إسرائيل، أن يدركوا جيدا أن توازن الرعب قد أصبح واقعا فعليا على الأرض، وأن ردود أفعال الأمس على غطرستها وعنجهيتها في الأراضي الفلسطينية ، ليست هي ردود أفعال اليوم أوالغد ؛ فهاهي المقاومة الفلسطينية تؤكد بالفعل وصول صواريخها إلى عمق الكيان المحتل،لتثير الرعب والهلع في أفئدة الصهاينة الجبناء بالفطرة .
وهاهي مصر العروبة تستعيد عظمتها وتؤكد ريادتها وحرصها على أمن غزة وفلسطين ،من خلال رد الفعل المصري السريع ، ليقدم رسالة واضحة للقيادة الإسرائيلية بمدى التغيير الذي حدث في مصر الثورة،وذلك من خلال طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، واستدعاء السفير المصري من تل أبيب، ثم فتح المعابر بشكل كامل أمام قوافل المساعدات المادية والعينية لسكان غزة . فسحب السفير ليس قرارا هَـيّـنـا كما يعتقد البعض،رغم أنه يبقى بعيدا عن متمنيات الملايين من الجماهير العربية.
وها هو وزير خارجية تونس ما بعد بنعلي يزور على زجه السرعة القطاع ومن ورائه وزير الخارجية التركي "أحمد داود أوغلو" اقتداء بوزير الخارجية المصري، تضامنا مع الشعب الفلسطيني في غزة وتنديدا بجرائم الصهاينة في حقهم،عارضين كل أنواع المساعدات المادية والسياسية.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وصل وفد يمثل وزراء الخارجية العرب برئاسة أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي إلى غزة لنفس الغرض،في حين كانوا قبل هذا لا يتجرؤون على إجراء اتصال هاتفي واحد مع رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة "إسماعيل هنية" ، وهذا لعمري تطور ملحوظ في الموقف العربي الرسمي الذي ظل حبيس سياسات أمريكية مملاة ،ولعقود طويلة .
وأمام هذه الحالة العدائية لإسرائيل،فإن التعبير الدولي عن الإدانة والاستنكار، ودعوات ضبط النفس لم يعد يجدي في الوقت الراهن في التصدي للمجازر الإسرائيلية المستمرة و المتواصلة على الفلسطينيين في غزة وغيرها ،فحكومات الاحتلال تشنّ حرب استنزاف على القطاع بشكل دائم ، ضمن إستراتيجية مدروسة ومحددة المرامي و الأهداف، وهي الإبقاء على القطاع ضعيفا ومنهكا وجائعـا بسبب الحصار الطويل ،حتى لا يقوى على تهديد أمن إسرائيـل ومستوطنيها.وهي تسعى بذلك جاهدة إلى إحراق غزة وتغيير قواعد الاشتباك، وإيصال رسالة إلى كل العرب وإلى مصر تحديدا ، بأن ما تصفه "بأمنها" مقدم لديها على كل الاعتبارات وفي أي حين، مهما كلف ذلك من دماء عربية، تعتبرها إسرائيل وأمريكا غير ذات قيمة ، بالمقارنة مع الدم اليهودي ..هذا كله في محاولة مكشوفة من إسرائيل لجس نبض النظام الجديد في مصر ، لاستكشاف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه المواقف العربية اتجاه عدوانها على قطاع غزة، وبالخصوص في دول الربيع العربي .
وهو ما يستدعي ردّا وموقفا عربيا حازما وحاسمـا مختلفا هذه المرة،يتجاوز طرد السفير الإسرائيلي أو استدعاء سفير مصر أو الأردن من تل أبيب . أقول : ردّا مناسبا بحجم الجريمة التي ترتكبها إسرائيل كل يوم في القطاع،الأمر الذي سيجعلها تعيد النظر في سياساتها العدوانية في حق الفلسطينيين ، ويثبت ويؤكد لها بشكل واضح أن جرائمها السابقة إذا كانت قد مرت بدون عقاب أو محاسبة،فإن الرد هذه المرة سيكون قاسيا ،مما يجعلها تفكر أكثر من مرة قبل أن تُـقدم على حماقاتها في القطاع أوغيره، وترسل طائراتها لتقتل الأبرياء بدون هوادة ولا اعتبار لقيمة الإنسان العربي.
كما أن الشارع العربي الذي ثار على الظلم و الاستبداد والفساد و القهر، ونجح في استرداد حريته وكرامته، لا يمكن أن يقبل قيام إسرائيل بقصف الفلسطينيين بالطائرات والأسلحة الفتّـاكة، كما لا يمكن أن يقبل باستمرار المسرحية الهزلية المسماة "مسلسل السلام" أو "مسلسل التسوية" مع حكومة إسرائيلية فقدت أخلاقياتها، تقوم بقتل الناس في شوارع غزة تحت حجة " حفظ أمنهــا ". وقد أصبح الآن مطلب سحب المبادرة العربية للسلام أمرا أكثر إلحاحا على الحكام العرب،هذه المبادرة التي لم تجلب للعرب والفلسطينيين سوى الخزي و العار، حيث قام المجرم شارون حينها بالرد عليها قائلا "إنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به " بل وقبل أن تغادر الوفود العربية العاصمة اللبنانية بيروت،قام المجرم شارون باجتياح الضفة الغربية وإسقاط السلطة الفلسطينية وحاصرة مقر الزعيم الفلسطيني الشهيد "ياسر عرفات"وارتكاب مجزرة "جنين" الرهيبة .
ولذلك أعود وأقول : إن الربيع العربي سيفقد قيمته الأخلاقية والتاريخية بل و شرعيته الثورية أيضا،إذا لم تكن فلسطين المحتلة بوصلته وإنهاء الاحتلال أسمى غاياته، فالمسألة أكبر من إغلاق سفارة أو طرد سفير،بل إن القضية هي قضية كرامة أمة تُـهان وتُـذَلّ كل يوم من خلال العدوان على المرابطين من أبنائها على أسوار القدس .. في أرض الرباط ومهبط الأنبياء.مسألة أمـة لم يعد يخشى أحد شرّهـا وبطشهـا
،أمة استصغرها أعداؤها إلى درجة وصفها بالنّعــاج،حين أقدم المحلل السياسي الإسرائيلي في القناة العاشرة المدعو تسفيكا يحزقيلي، بالتطاول على العرب موجهًا حديثه للإسرائيليين،حيث قال ساخرا '' اطمئنوا فإن القادة المجتمعين في القاهرة لن يغيروا شيئاً في المعادلة، وإن خطاب أردوغان مجرد كلام إنشاء يعجب الجمهور، وإن كلام وزير خارجية قطر حتى وإن كان قاسياً ، لكنه في مضمونه يدعو إلى عدم الجهاد، وإن العرب مجرد نعاج، وإن جميع القادة يجلسون منذ أيام في القاهرة ويأكلون البقلاوة اللذيذة ويرسلون تعازيهم إلى غزة'' انتهى كلام المذيع ، وللقارئ الكريم حق التعليق على هذا الكلام .
bakouri
merci mehdi
مشكور