دويتشه فيله
إلى حين كتابة هذا التقرير (الأربعاء الخامس من مايو/ أيار 2021) سجلت الهند أكثر من عشرين مليونإصابة بفيروس كوفيد-19، فيما سُجلت ذروة الإصابات اليومية الأسبوع الماضي بـ 402 ألف إصابة. أما عدد الوفيات فتجاوز 222 ألف حالة حتى الآن، في حصيلة دراماتيكية عزاها خبراء الأوبئة إلى التجمهرات الدينية والسياسية في الأشهر الأخيرة وإلى تراخي حكومة ناريندرا مودي التي لم تأخذ الجائحة بالجدية الكافية. ويعتقد الخبراء أن الأرقام الفعلية للوباء أعلى بكثير من الأرقام الرسمية. وثمة مشاهد درامية من بينها مرضى يقضون نحبهم على أبواب المستشفيات دون أمل في العلاج. ويثير ظهور سلالات جديدة (كالسلالة الهندية) عادة هلعا مفاجئا، رغم أن الخبراء يعتبرون الأمر عملية طبيعية، إذ تكتسب الفيروسات مع طول الوقت طفرات تضمن لها البقاء. وفي الغالب لا تشكل هذه الطفرات خطرا كبيرا. غير أن طبيعة الطفرة قد تزيد أحيانا من شدة عدوى الفيروس وبالتالي من سرعة انتشاره. وفي بعض الأحيان قد يكتسب الفيروس مناعة ضد اللقاحات المتداولة، مما يستدعي تطوير لقاحات مضادة جديدة. ولا يزال من السابق لأوانه تحديد طبيعة ما يسمى بالسلالة الهندية وعما إذا كانت فعلا أشد فتكا من سابقاتها أم لأ؟ وتواجه الهند نقصا قياسيا في الأوكسجين والأدوية في ظل نظام صحي متهالك.
على المستوى السياسي، أدت الإدارة الحكومية الكارثية للجائحة إلى هزيمة مدوية للحزب القومي الهندوسي "بهاراتيا جاناتا" بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي (الأحد الثاني من أبريل/ نيسان)، وذلك في الانتخابات المحليّة في البنغال الغربية، وهي ولاية أساسية يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة وشهدت حملة انتخابية تخللتها أعمال عنف. وبهذا الشأن كتبت صحيفة "نويه تسوريخه تسايتنوغ" الصادرة في سويسرا (الرابع من مايو/ أيار 2021) "هناك حقيقة وهي أن تقويض مودي وحزبه بهاراتيا جاناتا لهياكل الديمقراطية في البلاد بشكل منهجي أنها لا تقلق سوى طبقة صغيرة من المثقفين. وعمل مودي وأنصاره على خلق استقطاب حاد في بلد كان في الماضي معروفا بتسامحه، وعانى المسلمون بشكل خاص، كما الأقليات الدينية الأخرى من سياسة مودي. غالبية الهنود كانت على استعداد لغض الطرف طالما قام مودي بتحسين ظروف عيشهم الشخصية. لكن مع تفشي الوباء، تعرضت صورة أبي الشعب لخدوش خطيرة. الاستياء ينمو كل يوم. لقد استهانت حكومة مودي بالجائحة".
نظام صحي متهالك في "صيدلية العالم"
يعاني النظام الصحي في الهند من عجز بالغ، كما أنه غير مهيأ لمواجهة وضع كارثي بحجم جائحة كورونا. فهناك نقص مهول في عدد الأسرَة في المستشفيات، إضافة إلى نقص الأدوية والأوكسجين رغم تدفق المساعدات الدولية في الأيام الأخيرة. و تعد الهند دولة ذات تركيبة ديموغرافية يطغى عليها الشباب (ثلثا سكان البلاد الذين يبلغ عددهم 1,3 مليار نسمة) إذ تقل أعمارهم عن 35 عاما. تفاقم الوضع الصحي لا يظهر في المستشفيات والمصحات فقط، وإنما أيضا في محارق الجثث. وفي العاصمة نيودلهي أصبح عدد أسرّة الانعاش والرعاية المركزة الشاغرة في اليوم أقل من عشرين سريرا، يتزاحم الآلاف من أجل الظفر بها، من بين أكثر من 5000 سرير. ويتنقل المرضى من مستشفى لآخر، بعضهم يموت في الشارع وآخرون يموتون في بيوتهم بينما تتنقل شاحنات الأوكسجين تحت حراسة مسلحة في ضوء انخفاض المخزون بشدة، كما تعمل المحارق على مدار الساعة.
ولمواجهة نقص الأطباء عملت الحكومة على إدراج الأطباء المتدربين وطلاب الشعب الطبية للمشاركة في مكافحة الجائحة في إطار حزمة الإجراءات التي من شأنها مساعدة الطواقم الطبية التي تعمل ليل نهار لإنقاذ المرضى. وفي هذا السياق صرح فالتر ليندنر السفير الألماني في الهند لإذاعة "بايرن الثانية" الألمانية "هناك 20 أو 30 مستشفى ولا توجد أسرة في كل مكان. لم يعد لدينا أي أسرّة أخرى، لأي أحد، بغض النظر عن الامتيازات التي يتمتعون بها". وعلى الرغم من تسليم المساعدات من عدة دول لا يزال هناك نقص في الأوكسجين. "لا يمكن إصلاح هذا بين عشية وضحاها، علينا تقديم الكثير من المساعدة". وذهب موقع "شبكة الإعلام الألمانية" (الثاني من أبريل/ نيسان) في نفس الاتجاه فكتب "بات النظام الصحي في الهند على وشك الانهيار، وسط أجواء من اليأس، حيث يضطر بعض أقارب مرضى كورونا لاستعمال الأدوية التي لم تثبت الدراسات فعاليتها بعد، أو التي يمكنهم الحصول عليها في السوق السوداء".
أزمة الأوكسجين ـ كفاح الهنود من أجل البقاء
يكافح مئات الآلاف من الهنود المصابين بكورونا من أجل البقاء على قيد الحياة بعد نفاذ مخزون الأوكسجين في المستشفيات. ومن المفارقات أن تكون الهند، المعروفة بريادتها العالمية في الصناعات الصيدلانية، في حاجة للأدوية والأوكسجين، وهي تواجه موجة ضارية من كورونا. وقد استغل المضاربون هذه الأزمة لخلق سوق سوداء، واجهتها حركة تضامن واسعة في المواقع الاجتماعية. ويتابع العالم بهوس تطور الوباء في الهند من خلال القصص المروعة التي تنشرها وسائل الإعلام في البلاد، حيث تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منتديات دفعت مواطنين يائسين لتسول الدواء والأوكسجين وأحيانا أسرة لاستقبالهم في المستشفيات المكتظة بالمرضى. وبات نقص الأوكسجين أحد أبرز عناوين هذه الأزمة. وتسعى السلطات الهندية لاستيراد خمسين ألف طن من الأوكسجين، كما حصلت على مساعدات على شكل أجهزة تنفس من عدة دول بينها ألمانيا وبريطانيا.
وقد أقلعت اليوم (الخامس من أيار/ مايو) طائرة نقل تابعة لسلاح الجو الألماني متوجهة إلى الهند وعلى متنها مكونات لتوليد الأوكسيجين الطبي. ومن المنتظر أن تصل الأجهزة غدا الخميس كجزء من مساعدات الطوارئ الألمانية، حيث ذكر سلاح الجو الألماني أن الطائرة هي من طراز "ايه.400.إم". وتعمل الوحدة الألمانية على تحويل الهواء الخارجي إلى أوكسجين طبي عالي النسبة قابل للتعبئة في اسطوانات. من جانبه، قال رئيس أركان سلاح الجو الألماني، إيغو غيرهارتس "النقل الجوي بالنسبة لنا مسألة معتادة لكننا نعرف أن المسألة تتعلق بحياة بشر في مكافحة هذه الجائحة ونعرف أن حياة كل فرد مهمة". ومن المنتظر أن تقلع طائرة نقل ثانية من فونستورف غدا. وكانت طائرة تابعة لسلاح الجو الألماني أقلعت من كولونيا يوم السبت الماضي، وعلى متنها مساعدات عينية مخصصة للهند عبارة عن 120 جهازا للتنفس الاصطناعي. وكان متحدث باسم السلاح صرح آنذاك بأن الطائرة سيكون على متنها طاقم إسعاف متخصص يضم 13 عضوا سيقوم بأعمال التحضير لتشغيل وحدة لإنتاج الأوكسجين، وأوضح أن الفريق سيبقى في الهند لمدة 14 يوما لتدريب أطقم الصليب الأحمر المحلي على ذلك. من جهته قال السفير الألماني في نيودلهي فالتر ليندنر "نقدّم مساعدة (..) ستنقذ حياة أناس كثر"، مضيفا "المستشفيات مكتظة. الناس يموتون أحيانا على أبواب المستشفيات. لم يعد لديهم أوكسجين. أحيانا (يموتون) في سياراتهم". وتتوقع السلطات الهندية انحسار أزمة إمدادات الأوكسجين الطبي بحلول منتصف مايو/ أيار الجاري مع ارتفاع الإنتاج بـ25 في المئة وتعبئة وتجنيد كل البنية التحتية للنقل في البلاد لمواجهة العجز في هذه المادة الحيوية.
سباق مع الزمن ـ حملة تلقيح واسعة.. ولكن!
فتحت الهند مجال التلقيح ضد وباء كورونا أمام سكانها البالغين، الذين يقدرون بحوالي 600 مليون شخص، رغم أن عددا من الولايات الأكثر تضررا بالموجة الثالثة مثل ماهاراشترا ونيودلهي، حذرت من نقص مهول في عدد جرعات اللقاحات المتاحة. وتصطدم حملة التلقيح بصعوبات بيروقراطية، وتناقضا بشأن الأسعار، إضافة إلى مطبات تقنية تربك عمل المنصة الإلكترونية الحكومية التي أنشأت لهذا الغرض. وقد تمكنت الهند لحد الآن من إعطاء حوالي 150 مليون جرعة وهو ما يوازي 11,5 بالمئة من إجمالي عدد السكان الذين يبلغ عددهم حوالي مليار وثلاثمائة مليون نسمة، أما عدد الذين تلقوا جرعتين من اللقاح فلا يتجاوز 25 مليونا.
وأظهرت بعض الدراسات أن السلالة الإنكليزية على سبيل المثال لا تقلل من فعالية اللقاحات، فيما أظهرت أخرى مخبريا أن فعالية اللقاح قد تتآكل أمام السلالتين الجنوب إفريقية والبرازيلية بسبب طفرتيهما. وتثير السلالة الهندية مخاوف مماثلة حيث خلصت دراسة أولية نُشرت في (23 أبريل/ نيسان) إلى أن لقاح كوفاكسين الذي طوره مختبر بهارات بايوتك الهندي أقل فعالية ضد هذه السلالة مقارنة مع الفيروس الكلاسيكي، من حيث إفراز الأجسام المضادة، لكنه يوفر مع ذلك حدا معينا من الحماية. وبهذا الصدد كتب موقع "شبيغل أونلاين" (الرابع من أبريل/ نيسان) يلقى الكثير من الناس حتفهم في الهند بسبب فيروس كورونا لدرجة أن حطب حرق الجثث بدأ في النفاد" وتساءل الموقع مستطردا "فكيف تنوي الدولة تطعيم مليار شخص الآن؟".
استخفاف الحكومة بتحذيرات الخبراء!
في سياق متصل، أكد خبراء هنود من فريق المستشارين العلميين الذين عينتهم الحكومة الهندية، أنهم حذروا السلطات الصحية في البلاد في بداية مارس/ آذار من نشأة سلالة متحولة من فيروس كورونا أكثر عدوى وانتشارا في البلاد. وقال أربعة من الخبراء إن تحذيراتهم لم تلق آذانا صاغية من قبل الحكومة المركزية التي استبعدت فرض قيود كبيرة لوقف تفشي الفيروس. إذ نظمت العديد من التجمعات الدينية والسياسية حضرها ملايين الأشخاص الذين لم يلتزموا بقواعد التباعد الاجتماعي وفي الغالب بدون كمامات طبية.
كما نظمت مهرجانات سياسية حضرها رئيس الوزراء ناريندرا مودي وزعماء حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم وسياسيون معارضون، فيما واصل عشرات الآلاف من المزارعين الاعتصام على أطراف نيودلهي احتجاجا على تغييرات مودي في السياسة الزراعية. وبهذا الصدد، كتب موقع "فيلت" (الثالث من أبريل/ نيسان) أن "الهند باتت مركزا عالميا للوباء. ومن أسباب ذلك حكومة رئيس الوزراء مودي التي تفاخرت مرارًا وتكرارًا بإدارتها الناجحة لكورونا، بدلاً من تسليح نفسها لمواجهة الموجة الثالثة. والآن يدفع السكان ثمن هذه الشعبوية".
قلق عالمي وغموض بشأن خطورة السلالة الهندية
يتابع خبراء الأوبئة في العالم أسباب الارتفاع المهول في عدد الإصابات في الهند وما إذا كانت وراءه سلالة متحورة (السلالة الهندية) يطلق عليها "بي.1. 617" تم رصدها أول مرة في البلاد. وامتنعت منظمة الصحة العالمية عن توصيف السلالة الهندية بأنها خطيرة أو مثيرة للقلق كما وصفت سلالات أخرى متحورة في بريطانيا والبرازيل وجنوب أفريقيا على سبيل المثال. لكن المنظمة أكدت في 27 أبريل / نيسان أن تتبع تسلسل جينوم السلالة الهندية يشير إلى معدل نمو أعلى من السلالات الأخرى في الهند. من جهته، أوضح شاهد جميل رئيس اللجنة وعالم الفيروسات الهندي البارز "نرى طفرات في بعض العينات يمكنها أن تتجنب الاستجابات المناعية". ولم يذكر ما إذا كانت تلك الطفرات حدثت في السلالة الهندية أم في غيرها.
من جهته، التزم معهد "روبرت كوخ" الألماني بنفس الحيطة والحذر ورفض التسرع في إصدار استنتاجات وخلاصات سابقة لأوانها بشأن السلالة الهندية. وأوضح رئيس المعهد لوتار فيلر قائلا "لا يمكننا في الوقت الحالي أن نثبت بشكل نهائي ما إذا ما كان الفيروس ينتشر بشكل أسرع أم لا"، لافتا إلى سلالات أخرى لكورونا تلعب أيضا دورا في انتشار الوباء بالهند. واعتبر الخبير أن البيانات المتاحة حاليا ليست كافية لإصدار حكم نهائي، معتبرا أنه بشكل إجمالي ليس من السهل إدراك ما يحدث في الهند بالضبط، خصوصا وأن البلاد خففت في الأشهر الأخيرة بشكل كبير من إجراءات الوقاية من الفيروس. وصرح فيلر بأنه لم يتم اكتشاف سوى "حالات فردية" من السلالة الهندية في ألمانيا.
حسن زنيند