عبد الكريم المحيحش
إن الحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي هو حديث عن قضية ذات أولوية قصوى في حياتنا المعاصرة، بالنظر لما يمكن أن تضطلع به هذه المواقع من أدوار تتجاوز بكثير ذلك الطرح الاختزالي الذي يحاول أن يختزل وظيفتها في أبعادها الاستهلاكية المحضة، الذي يطبع مع الأسف ممارستنا الرقمية، نتيجة لهيمنة تصورات خاطئة ما فتئت تغذيها تلك الثقافة السائدة التي ترفض التعامل مع أي جديد لا يتوافق مع منطق العادات المنتمية إلى زمن ما قبل زمن التكنولوجيا. ولذلك فإنه من الأهمية بمكان أن يحظى هذا الموضوع بالعناية اللازمة تنظيرا وتأصيلا، لبلورة رؤية متبصرة قادرة على إدراك أهمية هذه الوسائل، ومستوعبة لكيفية تجاوز ما يمكن أن تطرحه من إشكاليات هوياتية وقيمية.
أما أن تكون هذه المواقع الاجتماعية وسيلة من وسائل التواصل بشكل عام، فهذا ما لا يحتاج إلى دليل، إذ أنها أصبحت اليوم عبارة عن فضاء مفتوح على العالم برمته، بحيث لم يعد لتلك الحواجز التقليدية لغوية كانت أو جغرافية أو إيديولوجية أي معنى، في ظل الإمكانيات التواصلية التي تتيحها، وبالتالي فقد أصبح بإمكان أي شخص يمتلك حدا أدنى من الثقافة الرقمية أن يتواصل مع مختلف الثقافات والجنسيات والأعراق، دون قيد أو شرط، وأما أن تكون هذه المواقع أداة من أدوات تحريك الأوراش التنموية، وتطوير المعارف والقدرات المتنوعة، فهذا ما لا يمكن تجاهله بحكم التجربة والملاحظة، وأخص بالذكر هنا ما نشاهده كل يوم من تنظيم للعديد من الفعاليات الفكرية والثقافية والتربوية التي يشرف على تأطيرها عدد من الخبراء في مختلف التخصصات، عبر هذه المنصات الافتراضية.
إن الحديث عن هذا الموضوع الذي أبرزنا أهميته يقتضي معالجة ثنائية تتضمن جانبين أحدهما نظري والآخر إجرائي، على أن نبدأ بالجانب النظري لنعرج في النهاية على بعض النماذج التطبيقية التي تبرز أهمية هذه المواقع الاجتماعية في السياق الحالي بأبعاده المختلفة.
إننا اليوم والحالة هذه، بحاجة إلى إعادة النظر في كثير من تصوراتنا المتعلقة بهذه المستجدات التقنية التي فرضت نفسها على كل الشعوب، لأن استراتيجية الهروب والاحتماء بالحصون التقليدية والانكفاء على الذات، ومحاولة التخلص من كل جديد ليست منهجا سديدا، ولا يمكن أن تخدم الأهداف التنموية المنشودة، بل ستساهم بشكل كبير في تشكيل ملامح شخصية مضطربة ومترددة وغير قادرة على الاندماج واتخاذ القرارات المناسبة، وهو ما سيفوت حتما على مجتمعنا فرص التنمية والتعاطي لأسباب النهوض من أجل اللحاق بركب الدول المتقدمة، خصوصا ونحن نعلم أن الرهان اليوم هو رهان معلوماتي بامتياز، وأن كل الدول تتطلع إلى بناء مجتمع معلوماتي قائم على تكنولوجيا المعلومات، كما أن الحروب القادمة هي حروب معلوماتية، لذلك فالخطوة الأولى في مسار بناء مجتمع المعلومات تنبني على أساس تصحيح التصورات الخاطئة، المرتبطة بهذه الوسائل. ويؤسفنا أن نجد اليوم الكثير من الناس ما زالوا محكومين بمنطق الذهنية التقليدية الذي يقصي كل جديد ويتعامل معه على أساس من الرفض المتعسف دون تمحيص أو نظر، ومما يبعث على الأسف أكثر أننا نجد بعض من يحسبون على النخبة المثقفة التي من المفترض أن تضطلع بدورها في التوعوية والعمل على نشر هذه الثقافة الرقمية باعتبارها ضرورة من ضرورات العصر، نجدهم على العكس من ذلك يعملون على إنتاج خطابات غاية في التطرف، من خلال إشاعة أنماط من التفكير الذي لا يرى في هذه الوسائل التكنولوجية إلا ذلك الوجه المتمثل في هدم الأخلاق وزعزعة منظومة القيم، معرضين تماما عن المكتسبات التنموية والنتائج الإيجابية التي يمكن أن تتحقق في حالة ما إذا تم التعاطي معها وفقا للضوابط التشريعية والمعايير الأخلاقية.
إن هذه الذهنية النمطية الموغلة في التطرف هي في الواقع ليست حالة عرضية معزولة يمكن التعامل معها على أساس أنها استثناء لا يقاس عليه، بل هي ظاهرة خطيرة تكاد تسري في النسق المجتمعي ككل، ما فتئت تغذيها وتمدها بالاستمرارية تلك الخطابات العدمية التي يمارسها البعض في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وعبر مجموعة من المنابر الإعلامية التي من المفترض أن تساهم في عقلنة وترشيد استعمال هذه الوسائل بالكيفية التي تبني ولا تهدم.
إننا اليوم بحاجة إلى أن نكون واعيين بمدى التأثير الكبير لنوع الخطاب الذي نمارسه سواء كان خطابا سياسيا أو دينيا أو ثقافيا، لأن كل ما يقال أو ينشر في مختلف وسائل الإعلام ما يلبث أن يظهر كسلوك متطرف وعنيف في الشوارع والفضاءات العامة، وفي مختلف الأوساط الاجتماعية، وبالتالي فإن كل من يخاطب الناس بنوع من أنواع الخطاب يجب أن يستحضر في ذهنه بأنه يشرع بكيفية ما لممارسات معينة. صحيح أن مثل هذه الخطابات ليست لها سلطة مادية يمكن أن تمارس بها نوعا من أنواع القهر والاستبداد، لكنها في الوقت نفسه يمكن أن تترك أثرا عميقا في النفوس بسبب ما تتمتع به من سلطة رمزية وقوة تأثيرية وإقناعية يتجاوز تأثيرها ما تحدثه الدبابات والأسلحة المدمرة، لذلك
فمن الواجب استحضار هذه الأبعاد عند ممارسة أي نوع من أنواع الخطاب، واستشعار تحمل مسؤولية ما يمكن أن ينتج عن مثل هكذا ممارسات.
وإذا كانت هذه الوسائل التكنولوجية بما هي عليه من ازدواجية في الأدوار بحيث يمكن أن تكون فضاء مفتوحا لنشر قيم الخير والفضيلة وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش بين الناس، كما يمكن أن تكون مرتعا خصبا لتغذية ثقافة الصدام والتحريض ضد الآخر، والتطلع نحو زعزعة الأمن والاستقرار، فإن مقتضى النظر فيها في كلتا الحالتين أن ننظر إليها من زاوية ما يمكن أن تحققه من نتائج إيجابية فنعمل على تحصيلها بكل الطرق الممكنة والمشروعة، كما ننظر إليها من زاوية ما يمكن أن ينتج عنها من سلبيات فنعمل على تفاديها بما هو متاح من إمكانيات تربوية وتأطيرية وقانونية.
هذا هو التصور الذي ينبغي أن يؤطر سلوكنا ويحكم علاقتنا بهذه الوسائل والتقنيات الجديدة، وهو تصور بلا شك سينأى بنا عن جهة الإفراط أو التفريط، لأنه قائم على الاعتدال والوسطية، وعلى الاستخدام الممنهج الذي يراعي كافة الشروط والضوابط التشريعية والأخلاقية.
وقد لا يخرج ما ذكرناه بخصوص أهمية هذه الوسائل في حياتنا المعاصرة عن مجال الادعاء ما لم نعزز ذلك بنماذج تطبيقية مستوحاة من واقع التجربة الحسية والممارسة الميدانية، وهذا ما سنعمل على إبرازه من خلال مثالين يختلفان سياقا ومضمونا لكنهما يتقاطعان من حيث إبراز أهمية الوظائف والأدوار التي يمكن أن تضطلع بها هذه الوسائل التكنولوجية في مواجهة التحديات الراهنة بكافة أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والصحية وغيرها.
إن المثال الأول الذي نريد عرضه هنا مستوحى من واقع التجربة الوبائية وما طرحته من إشكاليات، حيث عرفت هذه الفترة الوبائية في بدايتها توقف جميع المصالح وإغلاق كل المرافق العمومية، مما استدعى اتخاذ مجموعة من الإجراءات البديلة ضمانا لاستمرارية الخدمات العمومية، فكان من بينها الانتقال من العمل الميداني إلى العمل عن بعد، عن طريق استعمال هذه الوسائط التكنولوجية الحديثة، التي لولاها ما كان باستطاعتنا أن نتصور النتائج الكارثية التي يمكن أن تحصل، خصوصا في ظل الارتباك الكبير الذي حصل نتيجة للصدمة الوبائية التي تعتبر بحق صدمة تاريخية، بالنظر لكون هذا الوباء لم يكن معروفا من قبل، لكن بالرغم من كل تلك التحديات استطاعت الدولة أن تدبر المرحلة بمنتهى الحكمة والمسؤولية، والفضل في ذلك طبعا يعود إلى هذه الوسائل الحديثة.
أما المثال الثاني فيرتبط بسياق الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة وما شهدته هذه الاستحقاقات من ممارسات غير ديموقراطية من طرف بعض الفاعلين السياسيين أو من يتعاونون معهم، وقد رأينا كيف أسهمت هذه الوسائل بشكل أو بآخر في ترشيد العمل السياسي والممارسة الديمقراطية، الشيء الذي كنا نفتقده في سنوات خلت، حيث لم تكن
تسلط الأضواء على كثير من الخروقات والأحداث التي تقع خلف الكواليس في الواقع السياسي المغربي.
إذن فهذه تجارب عملية يمكن على ضوئها بناء تصورات جديدة حول أهمية هذه الوسائل في حياتنا المعاصرة، لإعادة تفعيل الأدوار المنوطة بها كرافعة للتنمية لا كمجرد وسائل لهدر الطاقات والموارد، التي نحن في أمس الحاجة إليها للخروج من واقع التخلف والانحطاط إلى أفق ينعم فيه مجتمعنا بكل مظاهر التقدم الحضاري المنشود.