بكوش فاطمة الزهراء
في خضم هذا الحدث الكروي المهم الذي عاشه المغرب بوصول فريقه إلى نصف نهائي كأس العالم، وفي خضم أجواء الفرح والانبهار اللذان يعيشهما المغاربة في كل أنحاء المعمورة، وتشاركهم فيهما عدد من الشعوب سواء العربية أو الافريقية أو هما معا، انبثق إلى النقاش موضوع يستحق أن نقف عنده ونفكك دلالاته، وهو طبيعة الانتماء الهوياتي للمغاربة، أو بعبارة أخرى "من نحن؟" وإلى من ننتمي كمغاربة؟ وأين يمكن أن نصنف هذا المنتخب؟ هل نحن عرب بدرجة أولى أم أفارقة؟ وهل يحق لنا أن نقول عنه فريق عربي على الرغم من أن أهم لاعبيه من أصول أمازيغية؟ وهل هو فريق للمسلمين فقط أم أن من حق اليهود المغاربة اعلاء راية الاحتفال بانجازاته؟
المثير في هذا النقاش أنه يخص المنتخب المغربي بشكل خاص دون غيره، فنحن اليوم أمام ثلاثة فرق أخرى تتواجد في الدور نصف النهائي، تعيش شعوبها احتفالاتها الخاصة بفرقها أيضا، وإن لم يكن بالدرجة نفسها التي يعيشها الشعب المغربي، لكن لن نجد ضمن نقاشتها المفتوحة موضوع "الهوية" أو " الانتماء" أو من الأولى بالاحتفاء بها؟ كما هو اليوم بالنسبة للفريق المغربي. بل يمكننا أن نقول بأن المنتخبات العربية الثلاث التي شاركت في النهائيات لم تكن لتواجه هذا النقاش بالحدة نفسها لو أنها عبرت إلى هذه المرحلة. وهنا نجد أنفسنا كمغاربة أمام ضرورة إعادة طرح السؤال الأول في هذا المقال "من نحن؟" وهو السؤال الذي يجد اجابته في تفكيك مكونات الهوية المغربية أو "تامغرابيت".
حظي سؤال الهوية المغربية أو "تامغرابيت" بحيز مهم من البحث والنقاشات الفكرية لرواد علم الاجتماع والأنتروبولوجيا وغيرهم من المفكرين المغاربة، إذ لم يغب هذا الموضوع عن جل الانتاجات العلمية التي قدمت حول المجتمع المغربي؛ خاصة منها كتابات بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي ومحمد عابد الجابري وحسن رشيق. والمشترك بين هذه الكتابات وغيرها هو تأكيدها على أن ما يميز الهوية المغربية وما يكسبها طابعها الخاص والمتفرد هو تعدديتها ودمجها لعدد من الهويات داخل هوية واحدة هي "تامغرابيت"؛ فأن تكون مغربيا معناه أنك تحمل في طياتك اختلافا وتنوعا هو جزء منك، بل هو عنوان لخصوصيتك؛ بحيث تصبح "تامغرابيت" مرادفا للتعددية.
أن تكون مغربيا معناه أنك تعكس ارثا ثقافيا وعرقيا متنوعا، وفيك يجتمع البعد الأمازيغي والعربي، الحساني واليهودي، أن تكون مغربيا معناه أنك تحمل هوية تأسست عبر تاريخ من الاحتكاك مع المجتمعات الشرق أوسطية والافريقية والأوروبية، ما نتج عنه ثقافة مبدؤها الانفتاح ورفض الاختزال، وعنوانها اللاتجانس ورفض الوحدوية.
ما أود أن أخرج به من خلال هذا المقال، هو أن سؤال الانتماء متجاوز بالنسبة للهوية المغربية لأنها بطبيعتها تعددية، وتتأسس على دمج أنماط ثقافية مختلفة، وهي بذلك تمثل تلك الهوية التي تسطيع من خلالها أن تكون افريقيا عربيا أمازيغيا مسلما أو يهوديا، دون أن تتناقض مع كونك مغربي حتى النخاع، إننا كل ذلك في الآن ذاته، وحين يقول أحدنا أنه مغربي فهذا لا يعني الشيء نفسه بالنسبة لشخص يقول أنه سعودي أو فرنسي، لأن هذا المغربي سواء كان يتحدث العربية (اللهجة الدارجة) أو الأمازيغية أو الحسانية، وسواء كان مسلما أو يهوديا أو حتى مسيحيا، فهو يحمل ضمنيا جزء من مكونات ثقافية مختلفة، تحيك مع بعضها البعض النسيج الثقافي المغربي.
إن سؤال الانتماء هذا الذي طرح وإن كان فرصة لتوسيع نقاشنا حول طبيعة الهوية المغربية المتفردة، فإنه فرصة أيضا لمساءلة جنوح الأفراد نحو مبدأ التصنيف، عبر وضع كل هوية في خانة محددة، لا ثاني لها، ورغبتهم في نسب كل فعل إلى ثقافة معينة؛ فالسجود لله أثناء الاحتفال صنفه البعض على أنه جزء من ثقافتنا الاسلامية، وصنفه البعض على أنه محاولة لأدلجة الرياضة، والاحتفال بالرقص مع الأم داخل الملعب صنفه جمهور على أنه أصدق تعابير الفرح والاحتفال، وصنفه جمهور آخر على أنه لا يمثل ثقافته المحافظة، وهنا أود أن أطرح السؤال التالي: ألا يمكن أن نحتفل دون أن نصنف؟ احتفالا من أجل الاحتفال، وفرحا من أجل الفرح، متجاوزين كل أحكام القيمية وأحكام التصنيف، ألا يمكن أن نقول لهؤلاء الشباب أحسنتم دون الحاجة إلى وضعهم في خانة المختلفين عنا أو المتشابهين معنا؟ إن تحليلا نقديا لهذه التعاليق يكشف حاجتنا الماسة إلى مراجعة الأسس التي تسير علاقتنا بالأخر، وكيف نبني رؤيتنا حوله، وكيف ننطلق من ذواتنا في تعاملنا معه، ولماذا نحكم عليه وفقا لتصوراتنا وقناعاتنا نحن، غافلين عن تصوراته هو ورؤيته هو والمعاني التي يضعها هو لأفعاله.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن النمط التصنيفي هذا يغفل عن قاعدة أساسية تنبني عليها الهويات الثقافية، وهي التطور والتغير مع الزمن، وبعبارة سي محمد عابد الجابري فـ"الهوية الثقافية كيان يصير ويتطور، وليست معطى جاهزا ونهائي" ، فكل هوية ثقافية كيفما كانت اليوم ستصبح في الغد صورة سابقة، أولوية، لحقتها التغيرات بفعل التجارب والأحداث التي تعيشها المجتمعات، واغتنائها واحتكاكها مع هويات ثقافية أخرى. ومن تم يستحيل أن نصنف أي هوية في خانة نهائية، ما دام أن مصيرها المؤكد هو التطور عبر الزمن.