سعيد الكحل
اعتاد الإسلاميون على استعمال شعار "المرجعية الإسلامية" كسلاح لمواجهة مطالب تعديل قوانين الأسرة، التي ترفعها مكونات الحركة النسائية والحقوقية من أجل القضاء على كل أشكال العنف والتمييز ضد النساء.
فهم يتحدثون عن المرجعية الإسلامية كما لو أنها مرجعية واحدة وموحدة لدى جميع المسلمين عموما، ولدى كل مكونات تيار الإسلام السياسي. بينما واقع المجتمعات والدول يثبت، ليس فقط الاختلافات في تحديد طبيعة هذه المرجعية من مجتمع لآخر، ولكن أيضا بين تنظيمات الإسلام السياسي.
فما يقدمه السلفي الوهابي من تأويلات لمضامين النصوص الدينية، وما يتخذه مرجعا لمواقفه، يختلف جزئيا أو كليا عن قراءات وتأويلات بقية مكونات التيار الديني، إذ ما يعتبره هذا التنظيم حلالا يحرّمه تنظيم آخر. فالسلفيون الوهابيون يحرّمون خروج المرأة من البيت دون إذن الزوج أو الأب، أو مزاولتها للعمل خارج المنزل، أو التحاقها بالمدرسة طلبا للعلم والمعرفة كما هو الحال اليوم في أفغانستان تحت حكم طالبان التي أجبرت الإناث على ترك المدارس والجامعات رغم الوساطات التي قام بها فقهاء وشيوخ من دول مختلفة لدى قيادة طالبان التي تؤمن إيمانا جازما أن تعليم الإناث حرام شرعا.
بنفس "المرجعية الإسلامية" يجزّ تنظيم داعش رقاب الأبرياء من المسلمين والمسيحيين، ويفجر المساجد على رؤوس المصلين.
بنفس المرجعية الإسلامية البعيدة عن الاعتدال ناهض حزب العدالة والتنمية، في المغرب، مطالب النساء في اقتسام الممتلكات الزوجية، ورفع سن الزواج إلى 18 سنة، وولاية المرأة على نفسها في الزواج ؛ معتبرا هذه المطالب "مصادمة للشرع".
وها هو اليوم يتمترس خلف نفس المرجعية ليناهض التعديل الجوهري لمدونة الأسرة الذي دعا إليه جلالة الملك تفاعلا مع مطالب الحركة النسائية. مرجعية المغرب الدينية والحقوقية والدستورية.
من المفروض في السيد بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الذي قاد الحكومة لولايتين، أن يعي جيدا مضامين الدستور المغربي الذي لم ينص في ديباجته على أن المغرب دولة دينية وأن الشريعة الإسلامية المصدر الأسمى للتشريع؛ بل أقر بـ "إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة". ومن ثم فالإسلام هو مكوّن من مكونات الهوية المغربية المتشبعة "بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء".
من هذا المنطلق انخرطت الدولة المغربية في إطار المنظمات الدولية و" تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا".
لقد اختار الشعب المغربي هوية متعددة الروافد، وحسم مرجعياته الحقوقية والدستورية التي لا رجعة فيها. ذلك أن المرجعية الدستورية للمغرب تجعل "الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة".
من هنا، لا مجال أمام بنكيران وحزبه سوى الانسجام مع مقتضيات الدستور وتقديم الاجتهادات المتعلقة بمدونة الأسرة بما يتوافق مع الاتفاقيات الدولية. سعي البيجيدي للانقلاب على الدستور والوصاية على الشعب. تتسارع وتيرة تصريحات البيجيديين المناهضة لمطالب الحركة النسائية المتعلقة بمواءمة بنود المدونة مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.
والغاية من تلك التصريحات، بعثُ رسائل تهديدية ، تارة صريحة وأخرى مبطنة، بهدف الضغط على وزير العدل حتى لا يوافق على إدخال المطالب النسائية ضمن مشروع التعديل. خطة البيجيدي ما عادت تجدي بعد إقرار الدستور الجديد ومصادقة المغرب على المواثيق الدولية المتعلقة بالقضاء على كل أشكال العنف والتمييز القائم على النوع.
أما محاولات البيجيدي جر الشعب المغربي إلى نفس الصراع الذي عاشه سنة 2000، عند صدور مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، فلن توقف حركية المجتمع وتقدم تشريعاته. فكما فشل الإسلاميون في إسقاط المشروع حينها، سيفشلون في وقف مسلسل مواءمة التشريعات الوطنية مع الدستور والمواثيق الدولية.
إن دعوة البيجيدي، على لسان إلهام الوالي، مسؤولة العمل النسائي بالحزب بإقليم فاس، إلى رفض المواثيق الدولية بحجة "تعارضها" مع الهوية الوطنية، ليس لها من معنى سوى سعي الحزب إلى فرض الوصاية على الشعب وتحديد ما ينبغي أن يقبله الشعب وما يجب أن يرفضه من تلك المواثيق. فبالنسبة لإلهام الوالي ومعها حزبها الذي صوت بنعم على الدستور، أن " المواثيق التي تحدث الدستور عنها يجب أن تراعي الخصوصية وهوية المجتمع المغربي قبل كل شيء"، وكأن الحكومات المغربية التي صادقت على تلك المواثيق الدولية، أو أن أعضاء اللجنة التي عينها جلالة الملك لمراجعة الدستور سنة 2011، جاهلون بالهوية المغربية أو متنكّرون لها، بينما هم من دستروا سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية.
لهذا يبقى تصريح مسؤولة البيجيدي عن القطاع النسائي بالحزب بأن “نقبل بهذه المواثيق الدولية ما لم تتعارض مع الهوية الوطنية”، تصريح سياسوي يزايد به البيجيدي على الدستور كما زايد على الدين قبل أن تنكشف حقيقة متاجرته به. فالشعب المغربي ليس بحاجة إلى من يعلّمه دِينه أو يبين له خصوصيات هويته ومكوناتها وهو الذي شكّلها على مر التاريخ.
وما على البيجيدي وأمينه العام إلا أن يعْلَما أن المغاربة متشبثون "بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء". إن مصدر تهديد هوية المغاربة ليست المواثيق الدولية التي تناهض التمييز ضد النساء، وإنما إيديولوجيا الإسلاميين المشرعنة لكل أشكال العنف والاستغلال والظلم في حق الإناث. ذلك أن البيجيدي هو من رفض الطلاق القضائي أو حق الزوجة في تطليق نفسها لتظل تعيش وضعية القهر والعنف الزوجيين؛ وقاوم إخراج قانون التحرش الجنسي يستجيب للمطالب النسائية.
وها هو اليوم يتمسك بتزويج القاصرات، وبتقييد التطليق للشقاق حتى لا تتحرر الزوجة من العنف الزوجي، ويناهض المساواة في الإرث، وإلغاء التعصيب، ورفع التجريم عن الإجهاض رغم المآسي التي يتسبب فيها، وإلحاق الابن بأبيه البيولوجي علما أن الله تعالى أوجبه على المسلمين في محكم كتابه (ٱدْعُوهُمْ لآبائهم هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ).