الطيب آيت أباه
في واحد من الأزمنة القديمة، اشتهرَت قرية بعادة ذميمة. كُلّما بلغ فيها رجل من العمر عتيا، يحمله الإبن البكر على كتفيه عاليا، ويصعد إلى قمة جبل شاهق، ثم يرمي به في مكان سحيق! ويقفل عائدا إلى حال سبيله، كأن شيئا لم يقع في حينه!
سار أهل القرية على نفس المنوال لعقود من سنوات طوال، مواظبين على ذات النهج الشنيع، إلى يوم من أيام الربيع، حين حمل إبنٌ أباهُ على عُرف القطيع، كالعادة نحو المصير الفظيع، قاصدا به جبل الموت المريع، على إيقاع الطيش القريع. وبينما الإبن يلهث مسرعا لإتمام المُهمّة، شرع الأب في الضحك من فَرط الغُمّة.
مستغلا هذا العارض الكدير، توقف الإبن عن المسير. فما ألمّ بالأب فجأة بلا تقدير. كان فرصة لإسترجاع أنفاس سَليبة، وإستبيان أسباب القهقهة المريبة، كَونَ مصير كل شيخ محمول على الأكتاف، كما جرت على ذلكم الأعراف، يستدعي بدل الضحك نواحا ونتاف!
في خضم هكذا أمواج مؤلمة، استجمع الأب كامل حواسّه المُلهِمة، لعله يعبر نحو ضفة آمنة، عساه ينجو من عادة مهيمنة.
متوخيا الإقناع في لحظة سانحة، راح يسرد وقائع الأمس الكالحة، فما يجري اليوم، قد حصَل البارحة!
يحكي الأب بقلب منفطر: "أرى فيك ما حَرّمْتُه على نفسي جَهولا، حملتُ جدك دون أن أكترث لنفس المآل منقولا، وها أنا ذا اليوم قد صرت محمولا، وبالتالي غدا يجيء دورك مقتولا، ليحملك حفيدٌ من أصلابنا مهمولا! ما فتئنا على هكذا دأب، متخلفين عن الركب، مثل جلمود صلب، ما له عاطفة ولا قلب. لَعُمري إنه لَجُرم عظيم، أن نلبثَ على هكذا عبث كظيم، جَدّا أباً وحفيد، وهلمّا جرّا بِعُرفٍ رَديم!
رقّ قلب الإبن، وتحركَتْ فيه سِلام الفِطَر وأنقاها، فقرر عطفا ورأفة بوالده أن يضع حدا لهذا الدّأب المسموم، خلصا بموجبه إلى إبرام هدنة مكتومة، نال بها الأب عفوا مقرونا بشرط السرية اللازمة. قضى وفقها ما تبقى من العمر لاجئا منفيا في كهف مهجور، متوارٍ عن الأنظار، يزوّده الإبن خفية بما يكفيه من المؤونة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا!
مرت الأيام شهورا وأعواما حتى أصاب القوم قحط ومجاعة، وكان الإبن كلما زار والده في الكهف، يحكي له عن أحوال الناس، وكيف ساءت بهم الظروف، وتدهورت إلى أحلك المستويات، فما عاد لأهل القرية من قوت يسمن أو يغني من جوع!
دَلّ الشيخ إبنه على نوع من الأعشاب البرية، ووَصف له طريقة استنباتها، وكيفية الحفاظ عليها، ومقادير استعمالها، كما خبِر ذلك نقلا عن جدّ قديم، عايش محنة مماثلة ذات زمن، يشبه قياسا على ظروفه القاهرة، ما هُم عليه أهل القرية اليوم من عوز شديد. فلعل أعشاباً أوفت بالغرض مع السلف، تحبط موتا يحدق بالخلف ..
غادر الولد الكهف متوجها إلى القرية، وفي طريقه، كان يجمع من تلكم النباتات ما جادت به البَرية، ويضعها في جيوب بردعة الحمار، إلى أن بلغ الغاية بحمولة فيها كفاية!
فورَ وصوله للديار، أخبرَ الولد أهل القرية بعجائب النبتة، فخرجوا لجلبها من الجوار. زرعوا منها ما زرعوا، وأكلوا منها ما تيسر، فكان منها طعامهم وبعضٌ من شرابهم، إلى أن فرج الله كُربَتهُم، وعادت الأمور الى سابق عهدها. حينذاك أفشى الولد سر النجاة، وفك ألغاز المعاهدة، ملتمسا السلامة والأمان، ممهدا لحسن استقبال البشارة!
تفاجأ الناس بِعِلمهم أن عفواً لشيخ محكوم بالإعدام، كان له الفضل في نجاة أهل القرية أجمعين. وأنّ برّ وَلد بوالده في لحظات عصيبة، توَلّدَت عنه حياةٌ بأدنى حد من المواجع، كيف لا؟ وقد أحيَى الولد نفسا، فصار بها، كمن أحيى الناس جميعا..
نجمَت عن طبيعة استحضار العقل لحظةَ فوران الفطرة النقية تطمينات قوية ومبررات ذامغة، صدر معها إعلانُ القطعِ النهائي مع عادة قتل شيوخ القرية، ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، والناس يرجون الحكمة من كل مُجرب لم يستطب فخامة الكهوف!
العبرة: "إيـروَا الْعَقل إيـوَايَّا". وترجمتُها من الأمازيغية إلى العربية، على قَدر المجاز المتاح هي: "يُدَاوي العقلَ عقلٌ آخر" إن لله في خلقه شؤون! ومن شر الخلق ساسةٌ لبثوا في كهوفهم يصدأون. فمن المسؤول عن قحط من رجس بشر وما يصنعون؟ وبأي ضمير نام شيوخ على فساد منتشر؟ لا يوعَظون!!