يوسف الحزمري
من الأقوال المأثورة لجدي من أمي، والتي حفظناها عنها وعن أخوالي (اللي جا ريناه [يعني رأيناه]، واللي مشى نسيناه). وعند التأمل في هذه القولة تجد أن الرؤية تعني الاهتمام، والنسيان يعني حفظ أمانة المجالس، وعدم إتباعها بالغيبة والنميمة، وأيضا الاهتمام بمن اهتم بك، والإعراض عمن أعرض عنك، وليس هذا من الكبر المذموم، إذ هناك كبر هو بمثابة مضاد ضد المتكبر، يعرفه بحجمه ومكانته الحقيقية وأصله، ومن ثم قيل: (كيف لك أن تتكبر وأولك نطفة قذرة وآخرك جيفة نتنة) أو (كيف لك أن تتكبر وأنت قد خرجت من مخرج البول مرتين).
وفي «التمثيل والمحاضرة» (ص:410) عن «يحيى بن معاذ: التكبر على المتكبر تواضعٌ». ويروى «التكبر على المتكبر صدقة» وفي رواية «عبادة»، قال "ملا علي القاري" في الموضوعات (ص: 97) عن الرازي: أنه كلامٌ مشهور، قال: لكن معناه مأثور. فليس بحديث»
ومن أحاديث الإحياء للغزالي التي قال العراقي عنها: بأنها غريبة، وابن السبكي: بأنه لم يجد له إسنادا (قال صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم المتواضعين فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم، فإن ذلك مذلة لهم وصغار).
قال العراقي: والمعنى أن المتكبر إذا تواضعت له تمادى في تيهه، وإذا تكبرت عليه يمكن أن يتنبه، ومن ثم قال الشافعي: ما تكبر عليَّ متكبر مرتين، قال الزهري: التجبر على أبناء الدنيا أوثق عرى الإسلام، وفي بعض الآثار التكبر على المتكبر صدقة، ... ومنه يؤخذ أن الرجل إذا تغير صديقه وتكبر عليه لنحو منصب أن يفارقه، ولذلك قيل:
سأصبر عن رفيقي مما إذا جفاني … على كل الأذى إلا الهوان
انظر: «تخريج أحاديث إحياء علوم الدين» (5/ 2032).
وحقيقة الكبر أيها الإخوة الأعزاء ما عرّفه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم من أنه: «سَفَهُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ» وسفه الحق: أي جهله، وغمص الناس أي: احتقارهم. قال في «الإفصاح عن معاني الصحاح» (8/ 77): « الكبر هو بطر الحق وغمط الناس، ويحتاج إلى بيان هذين الحدين اللذين يحتوي الكبر عليهما لينتهى عنهما؛... فأما بطر الحق؛ فالذي أراه فيه أنه ينبغي للمحق أن يكون في حقه حذرا من أن يتجاوز بنفسه في رؤيته أنه محق، فيبطر بذلك الحق بطرا يظهر عليه في الناس، ويكون على نحو الذنب الذي لا يتوب منه صاحبه؛ لأنه يرى أنه قد استطال بواجب شمخ على الناس بحق، فهذه من آفات المحقين.
فأما غمط الناس؛ فقد روي ذلك بالطاء والصاد، والمعنيان متقاربان، وكلاهما يعود إلى احتقار الناس، والتطاول عليهم».
وفي «تهذيب الأخلاق للجاحظ، ص: 32»: «قال بعضهم: الكبر: هو استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالناس واستصغارهم، والترفع على من يجب التواضع له».
ومن ثم كان النهي عن الكبر والتوعد عليه بالعقوبة بالطرد من الجنة، «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» . إذ كيف يدخلونها وقد قال الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]، وقال أيضا: ﴿إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡتَكۡبِرِينَ ﴾ [النحل: 23]
والكبر أو التكبر أنواع منها:
أولاً: الكبر على الله سبحانه، أو آياته، وهو أعظم وأبشع أنواع الكفر.
ثانياً: الكبر على الرسل والأنبياء كقول قوم ثمود لنبيهم صالح: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25]، أو قول فرعون وملئه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].
ثالثاً: الكبر على الناس، والكبر أو التكبر صفة ذميمة، والمتكبر مذموم في الأرض والسماء، ومعظم الآيات جاءت بصيغة استكبروا، استكبر، استكبرتم، تستكبرون، يستكبرون، استكباراً، والقليل بصيغة يتكبرون، متكبرين، متكبر.
والفرق بين المستكبر، والمتكبر: الألف والسين والثاء: تفيد الطلب؛ أي: المستكبر لا يملك وليس عنده مؤهلات الكبر مثل السلطان، والغني، والجاه، والعلم، والقوة، والحكم؛ أي: هو يظهر من نفسه ما ليس فيه بأن يرفض عبادة الله وطاعته، أو لا يقبل الحق من أحد مثلاً، والاستكبار والتكبر غالباً يكون بغير الحق، وقليلاً ما يكون بالحق مثل التكبر على العدو، أو لنصرة المظلوم، وأما المتكبر: فهو من حاز على بعض الصفات مثل الغنى، والسلطان، والحكم، والجاه؛ فهو في حال الكبر مثل فرعون وقارون، أو غيرهم الذين طغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد وظلموا وبطشوا وتجبروا» انظر: «تفسير القرآن الثري الجامع» (1/ 94).
جاء في «إحياء علوم الدين» (3/ 347): «فَكُلُّ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَخِيهِ وَاحْتَقَرَ أَخَاهُ وَازْدَرَاهُ وَنَظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاسْتِصْغَارِ أَوْ رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق ومن أنف من أن يخضع لله تعالى ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله فقد تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله».
وبَيَانُ مَا بِهِ التَّكَبُّرُ أَنَّهُ لَا يتكبر إلا متى اسْتَعْظَمَ نَفْسَهُ وَلَا يَسْتَعْظِمُهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ لَهَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَجِمَاعُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَمَالٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، فَالدِّينِيُّ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، وَالدُّنْيَوِيُّ هُوَ النَّسَبُ وَالْجَمَالُ وَالْقُوَّةُ وَالْمَالُ وَكَثْرَةُ الْأَنْصَارِ فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ».
جاء في «الهوامل والشوامل» (ص334):«قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه رحمه الله: كل من استشعر فِي نَفسه فَضِيلَة وَكَانَ هُنَاكَ نُقْصَان من وَجه آخر، وخشى أَن تنكتم تِلْكَ الْفَضِيلَة أَو لَا يعرفهَا غَيره مِنْهُ - عرض لَهُ عَارض الْكبر، لِأَن معنى الْكبر هُوَ هَذَا».
وفي «معجم الفروق اللغوية الحاوي لكتابَي العسكري والجزائري» (ص:444 ط قُمّ): «الكبر هو إظهار عظم الشأن، وهو في صفات الله تعالى مدح لأن شأنه عظيم، وفي صفاتنا ذم لأن شأننا صغير، وهو أهل للعظمة ولسنا لها بأهل، والشأن هاهنا معنى صفاته التي هي في أعلى مراتب التعظيم، ويستحيل مساواة الأصغر له فيها على وجه من الوجوه» .
ومن ثم كان الكبرياء صفة من صفات الله تعالى التي تفرد بها دون مخلوقاته، قال تعالى: {وَلَهُ ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ}[الجاثية:37]
أي له : العظمة، والجلال، والبقاء، والسلطان، والقدرة، والكمال.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ:} القوي القاهر؛ الذي لا يغلب. {الْحَكِيمُ:} فيما قدر، وقضى، فاحمدوه، وكبروه، وأطيعوا له.
فالحمد والثناء بالجميل كله على الله تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، والبقاء والسلطان، والقدرة والكمال، والحكمة الباهرة والرحمة والفضل والكرم، وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو، ولا رب سواه، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.
وورد في الحديث القدسي الصحيح عند أحمد ومسلم وأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما، أسكنته ناري»
وفي شرح هذا الحديث قيل بأن: «هذا الكلام خرج على ما تعتاده العرب في بديع استعاراتهم، وذلك: أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثياب، يقولون: شعار فلان الزهد، ولباسه«التقوى، فضرب الله عز وجل الإزار، والرداء؛ مثلا له في انفراده سبحانه وتعالى بصفات الكبرياء، والعظمة، والمعنى: أنهما ليسا كسائر الصفات؛ التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا، كالرحمة، والكرم، وغيرهما، وشبههما بالإزار، والرداء؛ لأنّ المتصف بهما يشملانه، كما يشمل الرداء الإنسان، ولأنه لا يشاركه في إزاره، وردائه أحد؛ فكذلك الله تعالى، لا ينبغي أن يشاركه أحد؛ لأنهما من صفاته اللازمة له، المختصة به؛ التي لا تليق لغيره، والله أعلم» انظر: «تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة» (8/ 736)، و«التفسير المنير - الزحيلي» (25/ 293).
وهناك كبر محمود؛ وهو أن يكون بالحق، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف : 146]، قال الإمام الرازي في تفسيره « مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير» (15/ 366): «معنى يتكبرون: أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم وهذه الصفة أعني التكبر لا تكون إلا لله تعالى، لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد فلا جرم يستحق كونه متكبرا، وقال بعضهم: التكبر: إظهار كبر النفس على غيرها. وصفة التكبر صفة ذم في جميع العباد وصفة مدح في الله جل جلاله، لأنه يستحق إظهار ذلك على من سواه لأن ذلك في حقه حق. وفي حق غيره باطل.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية قوله: بغير الحق لأن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل، وفي الكلام المشهور التكبر على المتكبر صدقة»
وفي «اللباب في علوم الكتاب» (9/ 312): قوله:{بِغَيْرِ الحَقِّ}فيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ، أي: يَتَكَبَّرُونَ ملتبسين بغير الحقِّ.
والثاني: أنه متعلِّق بالفعلِ قبله، أي: يتكبرون بما ليس بحق، والتَّكَبُّرُ بالحقِّ لا يكونُ إلَاّ لِلَّهِ تعالى خاصَّة».
وعن الشيخ راتب النابلسي بتصرف عن "موقع الغفران الإسلامي" : التكبر عمل قلبي لا يُعلم، وقد تظهر آثاره على الجوارح بقول أو فعل.
فيجوز التكبر على المتكبر استثناءً، لتفسير الإمام الرازي المذكور آنفا، فيجوز إظهار آثار التكبر على المتكبر لردعه عن كبره، أما التكبر عليه بفعل القلب فلا يجوز لحديث: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
وعلى ضوء ما سبق تفهم بعض الأبيات الشعرية التي تشتم منها رائحة التكبر، أو الفخر المذموم، مثل قول الشاعر:
قنعنا بنا عن كل من لا يريدنا ** وإن حسنت أوصافه ونعوته
فمن جاءنا يا مرحبا بمجيئه ** يجد عندنا ودا قديما ثبوته
ومن صد عنا حسبه الصد والقلى ** ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته
وينسبه بعض الشيعة للإمام جعفر الصادق، انظر: العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل - السيد محمد بن عقيل - الصفحة 41.
وقول الشاعر(علي الرمضان الشهيد) فقيه جعفري وشاعر أحسائي سعودي عاش بين (1185 - 1265 هـ):
غنينا بنا عن كل من لا يريدنا**وإن سار ما بين البرية صيته
علونا فلم نحفل بمن شط ودنا**ولو كثرت أوصافه ونعوته
ومن صد عنا حسبه الصد والقلا**يسومانه في الدهر خسفا يميته
ومن جاءنا بالود فاز بودنا**ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته
واستشهد بالبيت الأخير "حسن بن محمد المشاط المالكي" (ت 1399هـ) في كتابه «إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وآله وسلم» (ص519): عند حديثه عن شروط صلح الحديبة التي ظاهرها ضيم وباطنها عزّ للمسلمين، خاصة «من جاء قريشا ممّن تبعه عليه الصلاة والسلام لم يردّوه إليه...؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصنع شيئا إذ ذاك بمن ارتدّ عن دينه، ورغب عنه إلى غيره»
وقول الشاعر: عبيد الله بن الحرّ، أو الحطيئة.
متى تأتِهِ تعشُو إلى ضَوءِ نارِهِ**تجدْ خيرَ نارٍ عندَهَا خيرُ مُوقِدِ
ومعنى البيت: متى تأته في حال أنك تستدل على ضوء ناره تجد خير نار يوقدها خير موقد.
وقول الشاعر عبيد الله الجَعفي :
مَتّى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في دِيارِنا** تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجا
وهو من شواهد ابن حيان الاندلسي في تفسيره، أي متى تنزل عندنا تجدنا موقدين النار بحطب غليظ، وهذا كناية عن كرمهم.
إلى غير ذلك من أشعار الفخر والاعتداد بالنفس، فمنها ما تفسر في سياقاتها، ومنها ما تحمل على المطلوب من الكبر المحمود.