عادل متقي
شيخ جليل يتقدم زوجته و رضيعه وسط الصحراء القاحلة، قطعوا أياما و ليال مشيا على الأقدام حتى وصلوا جبال مكة.
طوال المسير، لم يتوقف عقل الرجل الكنعاني عن التفكير لحظة. كان قلبه يتقطع ألما و حسرة. كان مقدما على قرار تشيب له الولدان: عليه ترك ابنه الوحيد و زوجته في الوادي المقفر في مواجهة خطر الموت المحدق تحت قرَ الشمس و خطر الوحش..
بعدما مكث رفقة أهله بضعة أيام، كان عليه تنفيذ الأمر الذي قدم من أجله و الإذعان لأمر ربه.
نظر إلى أسرته الصغيرة مودعا متحسرا ثم أدبر صابرا محتسبا، ترك زوجته و رضيعه في صحراء قاحلة، لا ماء و لا نبات فيها إنما شمس حارة حارقة، مرددا: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون".
لحقت الزوجة به معاتبة لا تلوي على شيء، كيف يقدم زوجها، الرجل الرباني المؤمن على عمل مثل هذا؟ كيف يترك أهله وسط الصحراء المقفرة؟ كيف يحكم عليها و على رضيعهما بالموت المحتوم؟
غالب الرجل شعورا رهيبا، فقد قدرته على الكلام، ألحت عليه الزوجة ثم سألته: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فأجابت: إذن لن يضيعنا، ثم عادت أدراجها.. في مواجهة الموت.
لم تحتج المرأة الطاهرة العفيفة التقية إلى أكثر من جواب صغير، فهي تعلم أن زوجها رجل رباني مؤمن، و تعلم علم اليقين أن الله عز و علا رحمان رحيم، إله جواد كريم، لا ينسى مخلوقا من خلقه، فما بالك بزوجة نبيه و رسوله و أم ابن رسوله.
امرأة و رضيعها في مواجهة الموت، في صحراء قاحلة غير ذات زرع. ما أعسره من امتحان و ما أشقه من ابتلاء...
ما هي إلا أيام حتى زادت محنتها و عسر امتحانها فقد نفد ماؤها و اشتد بها العطش وبرضيعها.
أخذت تسير إلى جبل الصفا لعلها تبصر بئرا أو بشرا، ثم تهب مسرعة لتفقَد ابنها ثم تذهب باتجاه جبل المروة علها تلمح منقذا. قطعت المسار سبع مرات متتالية.
أثناء سعيها و بعدما بلغ العياء منها مبلغا، شاءت رحمة الله تعالى أن يضرب الوليد بقدميه الصغيرتين على الرمال فيخرج الماء عذبا متدفقا. انتبهت إلى الماء فراحت تكوم الرمال خوفا من ضياعه و هي تقول بالسريانية زم، زم، زم أي تجمَع.
بعد وقت، و أثناء عبورها في اتجاه شمال شبه الجزيرة، انتبهت قافلة من قبيلة جرهم اليمنية العربية إلى وجود طير في المكان فأيقنوا وجود الماء. بحثوا في الجوار فوجدوا امرأة رفقة رضيعها بجانب عين ماء.
و لأن الأمر يتعلق برجال ذمة و مروءة، منعت رجال قبيلة جرهم اليمنية العربية أخلاقهم من غصب حق المرأة الضعيفة و ابنها بل سألوها بكل أدب و استحياء إمكانية المكوث بينهم إن أذنت بذلك قبلت أمنا هاجر رضي الله عنها و أرضاها شريطة أن يؤمَنوا سلامتها و سلامة ابنها.
كبر إسماعيل عليه السلام و استقام عوده بين ظهراني قبيلة جرهم و صار لسانه عربيا، ثم ما لبث أن تزوج امرأة عربية جرهمية فكان من نسله الحبيب المصطفى محمد عليه الصلاة و السلام، خير خلق الله خلقا و مكانة عند الباري عز وجل.
هكذا شاء الله تعالى أن تكون مكة شهادة ميلاد العرب المستعربة كما شاء الله تعالى أن يكون النبي الكريم محمد عليه الصلاة و السلام عربي المولد و النشأة و اللسان رغم كونه من نسل إبراهيم عليه الصلاة و السلام الكنعاني الأصل السرياني اللسان.
ثم شاء الله عزَ و علا أن ينزل القرآن باللغة العربية، فهي لغة الشريعة و الشعيرة التي لا يمكن دونها سبر أغوار الدين و التفقه فيه ، فلا تدبر لمعاني القرآن دون تمكن من اللغة العربية و ضبط لقواعدها و لا قراءة للقرآن إلا بتدبر معانيه و الوقوف على مقاصده.
إذن، استطاعت اللغة العربية مع مرور الوقت، بفضل رجال مؤمنين يوثرون على أنفسهم و لو كانت بهم خصاصة، أن تشق طريقها داخل و خارج الجزيرة العربية بعدما تمكنت الغزوات الإسلامية من نشر الإسلام و تخليص الساكنة من ظلمات الكفر و الشرك والعياذ بالله.
من تم، تمكن الإسلام من دخول القلوب قبل البلدان، و سبحان الله، استطاعت اللغة العربية أن تفرض نفسها في عديد بقاع بفضل رفعة و سمو أخلاق لفيف من الرجال تربوا على منهاج النبوة فكانوا خير نبراس و خير قدوة.
بهذا تمكنت اللغة العربية خلال فترة توهج الدولة الإسلامية من أن تصبح اللغة العالمية الأولى خلال حقبة طويلة. حقبة نجح خلالها العلماء المسلمون على اختلاف بلدانهم و أصولهم أن يبدعوا في ميادين علمية شتى كالطب و الهندسة و الرياضيات. و قد ساعدهم في ذلك مكانة اللغة و غناها فاللغة العربية من أمتن اللغات و أكثرها استعمالا لمخارج الحروف و أغناها معجما إذ تحتوي على أكثر من ثمانين ألف كلمة و هو ما يفوق قواميس اللغات الأكثر استعمالا في العالم.
فاللغة العربية إذن ليست عرقا أو جنسا كما يروَج لذلك الكثيرون بل هي لسان و لغة مصداقا لقوله تعالى: " و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي" سورة النحل 103.
فلا توجد في العالم دولة تستطيع أن تنسب إلى نفسها العربية بخلاف اللغات الاستعمارية كالانجليزية لغة انجلترا و الاسبانية لغة اسبانيا و الفرنسية لغة فرنسا.
كما تجدر الإشارة إلى أن من بين الدول التي اعتنقت الإسلام هناك بلاد تخلت عن لهجاتها و تبنت العربية بديلا كبلاد النيل و الغرب الإفريقي في الوقت الذي حافظت بلاد الفرس و الترك و الشرق الأسيوي على لهجاتها الخاصة بها.
في هذا الجانب نشير أيضا على أنه و رغم تعاقب عديد من العائلات الأمازيغية على الحكم بالمغرب خاصة دولتي المرابطين و الموحدين، لم يعمد ملوكها إلى التخلص من العربية بل زكوها و شجعوا على تعلمها و لا أدل على ذلك سوى تشجيع هؤلاء الحاكمين الزوايا على حفظ المخطوطات الأدبية و العلمية العربية.
من خصوصيات بلادنا، أنها استطاعت الحفاظ على تنوعها العرقي و اللساني دون أن يسجل التاريخ أية صراعات عرقية و لا شك أن الفضل الكبير يعود إلى تدين المغاربة عبر مختلف العصور و الحقب.
و من خصوصيات بلادنا أيضا أن أغلب سكانها يتكلمون العربية و يستعلمونها للتواصل فيما بينهم خاصة مع تباين لهجات الناطقين بالأمازيغية و صعوبات التواصل فيما بينهم أو مع الناطقين بالعربية.
إذن، سكان المغرب عرب أمازيغ شاء من شاء و أبى من أبى و تبقى الأمازيغية بلهجاتها و بلغتها المعيارية لغة إسلامية ستساعد لامحالة على رفع نسبة التدين بالمغرب و بباقي بقاع العالم التي يقيم بها المغاربة.