زيادي عمر
مرة أخرى عشت لحظات جميلة بل مؤثرة ذات صباح في الحافلة...لأول وهلة اعتقدت ان الامر يتعلق بامرأة عجوز قد فعل بها الدهر فعلته و سلب منها اللب و ذاكرتها حيث الجميع لم يبالي بما تقول . لكن ما ان تمعنت في حديثها جليا حتى تبين لي أن الأمر يتعلق بدرس في ألتاريخ باسترجاع للماضي الذي كدنا ننساه، بنبش في ثناياه التي تخفي الكثير و الكثير.
إنها عجوز تنحدر من الريف و لا زالت لهجة الشمال الجذابة تؤكد ذلك.على ان ثقافتها العربية كانت سليمة تختلط بها كلمات فرنسية و اسبانية... كانت تتحدث عن المغرب إبان الاستعمار و عن معانات المغاربة عموما و الريفيين خصوصا.و كانت تخاطب الجميع بعفوية و صدق و حزن و اصرار ايضا جعل الكل يلتفت إليها بتمعن و فضول. كانت تحكي ما عاشته هي نفسها و اهل قريتها في ذلك الوقت العصيب من تاريخ المغرب بتفاصيله وحيثياته ، بعيدا عن كل اصطناع و تكلف.
قالت بنبرة ينتابها الحزن و الأسى أنها تتذكر الاستقلال و كأنه وقع للتو.كان عمرها 10 او 12 سنة,لكن كان على عاتقها حمل ألبالغين و مسؤولية الكبار. إنها عندما تشاهد الان الشباب و الشابات لا يعرن اهتماما لماضيهم بل يعيشون حاضرهم كأنه جاء بلا تضحيات و لا معانات، فإن الحزن يغمرها و يعتريها الغضب التام.لابد للمغاربة أن يقرؤوا التاريخ,أن يسترجعوا الماضي،أن يأخذوا العبرة منه في زمنهم هذا،و أن يسألوا اباءهم عن أيام حالكة طبعت فترة من الزمن حيث ارغمهم المستعمر على اختيار سبيل الموت بدل الحياة، وحيث ضحوا بأغلى ما لديهم كي نعيش نحن في عز و هناء.
حدثتنا كيف فرض الاسبان الضرائب و جابوها بالقوة دون مراعاة لفقر و عوز السكان،وكيف سلبوا الغلال و ما جادت به الارض من عرق أهلها وكيف جندوا الاطفال و الشباب لاعمالهم الشاقة و المهلكة في كثير من الاحيان،وكيف عوقب الناس و أهينوا و حرموا وعذبوا كلما عارضوا أو عاندوا المستعمر،وكيف اغتصبت النساء و الفتيات امام اعين اهاليهم وكيف سجن الكثيرون دون محاكمة و دون جريمة بلا شفقة و لا انسانية و لا حق ولا ضمير,وكيف ناضل الجميع لأجل الحرية و الكرامة والاستقلال.كانت طفلة تخدم المقاومين من الرجال وتمدهم بالمؤونة و المعلومات و غيرها مستغلة سنها و عدم انتباه المستعمرين لها...
وحكت عن الاستقلال.
كان عيدا، كان شيئا لا يصدق، كان الحياة نفسها.
ورغم البؤس و المعاناة، تحمل الناس كل شيء ، و بدا كل شيء هينا مقارنة بفترة الاستعمار....
و استرسلت العجوز كيف عاش الريفيون الجوع و العطش عندما حل الجفاف بالمنطقة.أنها ذكريات تقض مضجع الذين عاشوها و تشعل نار الحزن في قلوبهم و تثير مشاعر و أحاسيس تؤرق الذهن و تدمع العين.
نعم,الجوع.عشنا الجوع... قالتها مختلطة بتنهيدة عميقة و طويلة - اصابنا القحط و الجوع حتى نافسنا الحيوانات في أكل النبات و الاشواك,وحتى أصبح البقر والمعز حملا ثقيلا علينا...
باختصار إنها اشياء لابد من تذكرها حتى نتراجع عن كل عجرفة و كبرياء و نفتخر ببلدنا و رجالاته و حتى- وهذا هو الأهم- نستحيي من نهب خيرات هذا البلد و سلب حقوق ابنائه.