إيمان ملال
لقد أثقلنا كاهلَ هذا المجتمع بالثرثرات الفارغة، أكثر مما أثقلنا هو بنفاقه وتصنّعه؛ وأغرقنا القراء بمقالات تعكس أمراض مثقفي فيسبوك و غوغل، حتى أنهم أصبحوا يلهثون خلف كلّ مقال يستشهد فيه صاحبه بآية قرآنية لم يبذل نصف جهد الكتابة في محاولة قراءة مختلف تأويلاتها، ثم يأتي بأدلة "علمية" لا يذكر مصادرها ولا تفاصيلها، وقد أصبحنا نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً، وهذا ازدراء للقارئ قبل أن يكون فضحاً للكاتب بنفسه ! إن رفع السلاح في وجه القارئ منذ بداية النص هو تصرف لا يدخل ضمن أخلاقيات الكتابة، إلا إذا كنا نعجن الكلمات ونطبخ العصيدة ونرسلها للمواقع والجرائد للنشر وكأننا نرسلها للمهملات، فذاك شأن آخر! ليس كاتباً من يظن أنه في حرب بالمدافع والقنابل حينَ يضع يدعه على لوحة المفاتيح. ليس كاتباً من يبدأ مقالاته بالرّد الذي ينتظره من القرّاء، وكأنه يحاكمهم قبل أن يشرعوا في القراءة.
كما ليس كاتباً من يفتخر بكونه يكتب يومياً لأجل "طرف ديال الخبز" ! ولنفترض أنه يفعل ذلك لأجل لقمة العيش، ليس من اللائق إطلاقا إعلان ذلك في منابر إعلامية، وكأننا نقول للمجتمع لا يهمنا ما الذي تريده، نحن نكتب لأجل مصالحنا الشخصية وكفى. الكتابة ليست مهنة إلاّ بالنسبة لمن احترَفها وخرج من دائرة الهواية، ومسألة الاحتراف تتطلب من المرء سنوات لا تعدّ سوى على أصابع كلتا اليدين. لكننا في عصر التّسويق للبضائع كيفما كانت جودتها، وما يهمنا هو : كم من الربح سنجني بعد ذلك؟ وليس الفكر الذي نؤسس له. من يكتب يحمل على عاتقه مسؤولية مزدوجة، الأولى مصداقية اعترافاته الشخصية والثانية مسؤولية المجتمع الذي يقرأ له.
وحين يصبح الكاتب هو بذاته المفسد والذي لا يعرف كيف يكوّن عبارة سليمة لغوياً وبلاغياً، فما الذي تركناه من أخطاء لهؤلاء الذين ننتقدهم صباح مساء؟ الجديد في المسألة أنه أصبحت لدينا كاتبات تستهدفن شريحة واسعة من المجتمع، وهي الشريحة التي تنقاد وراء المظاهر وسطحية الأفكار دون البحث في نقائصها، ولا تملك أدنى مقدار من الرّوح النقدية. والأخطر من ذلك هو أن مقالاتهن تتخذ لها شعارات إسلامية لا علاقة لها بالعمق الدّيني للكلمة.
حيث نجد الخلط واضحاً بين المفاهيم، ومع ذلك فإن الأتباع لا يكفّون عن التّصفيق بحرارة في كلّ مرة يظهر فيها النجم السينمائي، وهو غير ملومين في ذلك، فالعقول ليست متساوية، وبدل أن يرتقي المثقف بالعقول أصبح يزيدها سقوطا في الهاوية، ويروّج للتناقضات والأفكار المتعصّبة للذات ويصنّف كلّ من قال "لا" في خانة "الأعداء".
ساحة الكتابة بالنسبة لهنّ ساحة معركة الفائز فيها من لديه جمهور من المصفّقين الذين لا يعرف أغلبهم ما الفرق بين من ينتقد تلك المقالات ومن يدعم الإستعمار الفرنسي ! "إما أن تكون معي أو تكون مع فرنسا" منطق قضيت ليلة أمس بأكملها محاولة فهمه، وفشلت ! واحدة من الكاتبات المقصودات، دون حاجة للحديث عن مايسة، قامت مؤخراً تعلن تضامنها مع الرّجال في "محنتهم" وتنصفهم أمام قانون التحرش الذي بنظرها لم يشمل النساء "العاريات"، وربما أهملت كاتبتنا تلك المقولة الرائجة في الفيسبوك الذي تستمد منه ثقافتها اليومية بعيداً عن الكتب "عيوب الجسم يسترها متر قماش، لكن عيوب الفكر يكشفها أوّل نقاش"، لأنها أرفع مستوى من أن تقرأ كمية كم المعارف قبل أن تخوض في شؤون المجتمع. وكما يبدو واضحا أن مقالاتها لا تزيد سوى الطين بلّة، وتكشف كلّ يوم عيباً جديداً، على عكس "العاريات" اللواتي تحدثت عنهن، لأن المظاهر قد تخدعنا أحياناً، وتجعلنا نحكم بالعهر على أشرف النّساء.
إذا رجعنا إلى مسألة غض البصر فلماذا لم تدع الكاتبة في مقالها الرجال لغض البصر استدلالاً بالآية التي أهملتها " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْأَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا" وأهملت بلاغة الترتيب الذي أتى عليه الأمر، فالمؤمنون أوّلاً ثم المؤمنات، قبل أن تعلن تضامنها العاطفي معهم بطريقة لا توحي بأية موضوعية في طريقة التفكير ؟ ثم كيف لنا ان نتحدث عن التحكم في طريقة لبس النساء ونحن غارقون في النفاق لدرجة لا تثير الغثيان وحسب، بل تصيب بالتسمم الفكري! هل تريد الكاتبة القول بأن كل "شبه عارية" ترغم الرجل على التحرش بها؟ هنا يكمن الفخ الذي وقعت فيه الكاتبة منجرفة وراء عاطفتها الدينية المتصدعة..
كما نسيت كاتبتنا أن تستدل بالآية الكريمة" وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ " وهي بالطبع تختار الآيات بعناية فائقة. كيف لامرأة ترتاح في لبسها بحرّيةن وتلك حرية شخصية لا يملك احد أن يمنعها منها، أن تتحمل مسؤولية وقاحة ذهن بعض الرجال؟ وأقول بعض لأن من الرجال من لا يشعر أساسا بوجود تلك المرأة لأنه ارتقى بنفسه فوق خداع المظاهر التي يعتبرها دون مستوى الإهتمام بها. سأتوقف هنا عن هذه المقارعة لأنّ الموضوع في مجمله لا يستحق كلّ هذا الصّخب، فقط ما أردته هو القول "إننا هنا"، لسنا نياماً يا سادتنا الكُتّاب، وإن كنتم تجرون خلفكم عربةً من الأتباع فإننا "لا نستوحش طريق الحقّ لقلّة سالكيه" عملاً بمقولة والد حفيد رسول الله الحُسين الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده.
ولي نصيحة متواضعة جدّاً، أنصح بها نفسي قبل الجميع، وهي: رحمكم الله، من أراد أن يكتب في شؤون المجتمع عليه أن يلتهم كتباً ومقالات، ويقرأ أي شيء يقع بين يديه ولو كان مخالفاً له، ولو كان لكافر، ولو كان لإرهابي، فإن انفتاح العقل لا يتمّ إلاّ بقبول الآخر، وإلا شيّعنا جنازة كتّاب أمّتنا الكبار وقتلنا الأدب والأخلاق والفكر في هذا الوطن الذي لا يزال ينتظر جيلاً يسمو به.
هذا المقال ليس كراهية لأحد، ولكنه غيرة على الكتابة، والقراءة، التفاتة سريعة سأعود بعدها لعزلتي وسط رواياتي وكتبي القديمة، أنتظر أن تواجَه بالفهم وليس بسوء الفهم، لأنني أعرف لمَن أكتب.
derif
[email protected]
إن رفع السلاح في وجه القارئ منذ بداية النص هو تصرف لا يدخل ضمن أخلاقيات الكتابة ، عندكي تنتقدي شي واحد في الحكومة