سعيد المودني
طفا على سطح ميادين الاحتجاجات القطاعية الاجتماعية في الآونة الأخيرة، ملف الأساتذة حاملي شهادة الإجازة المنتظرين الترقي في الدرجة، والأساتذة حاملي شهادة الماستر المنتظرين تغيير الإطار والدرجة أو الإطار فقط، وخاصة بعد التدخل الأمني العنيف ضد الأساتذة المحتجين بالرباط، والذي نجم عنها عدة إصابات واعتقالات في صفوفهم.
وينظر المتتبعون إلى هذا الملف من زاويتي نظر على الأقل، حسب مواقفهم المؤيدة أو المعارضة. بالنسبة للمعارضين لهذه المطالب، سواء كانوا من الجهات الحاكمة وأجهزتها السياسية، أو من المتعاطفين مع مكونات الائتلاف الفكرية أو السياسية، أو حتى من "المحايدين" "الموضوعيين" "المتجردين"..
بالنسبة لهؤلاء لا يمكن لميزانية الدولة أن تتحمل هذا النزيف المتواصل في ميزانيات التسيير خصوصا في مرحلة الأزمة هذه، وما يعرفه اقتصاد البلاد من انعكاسات بلغت حد سحب نسبة لا يستهان بها من اعتمادات الاستثمار.. وإذن لابد من اتخاذ إجراءات شجاعة لا تراهن بالدرجة الأولى على الانتظارات الانتخابوية الضيقة عبر دغدغة عواطف الفئة المستهدفة الناخبة، على حساب مستقبل البلاد برمتها الذي تم رهنه للجهات المانحة نتيجة سياسات فاشلة واختيارات خاطئة اتخذها من سبق له تسيير شؤون هذه البلاد، وعليه، وتماشيا مع روح الشعارات التي رفعها الحزب القائد، والمتمثلة في فتح الأوراش الكبرى للإصلاح، وحفظ التوازنات الماكرو-اقتصادية للدولة... لا بد من وضع حد لهدر المالية العامة..
من جهة أخرى، فإن الدولة يكفيها عناء تحمل نفقات دراسة هؤلاء المحتجين في جامعاتها كي يرفعوا من مستواهم المعرفي والأكاديمي، بل وكثير منهم تحصلوا على تلك الشهادات على حساب الزمن المدرسي، إضافة إلى أن الشهادات تلك عدد كبير منها لا يعبر عما تشهد به، ناهيك عن أنه ليس كل من حصل على شهادة وجبت ترقيته، يكفيه شرف العلم ورفعته..
من جهة ثالثة، لا تمكن مسايرة مطالب الناس التي لا تتوقف ولا تنحصر، خصوصا في هذا الميدان الذي ينتج عنه، في حالة المسايرة، خصاص مهول بالتعليم الابتدائي، وفائض عاطل في التعليم الثانوي التأهيلي!!
بعد ذلك يجنح الناس هؤلاء إلى التحجج بالقوانين في صيغتها الحالية التي منعت الترقية بالشهادة بشكل مباشر، وفتحت بالمقابل باب الترقي عبر اجتياز مباراة.. فلم الاعتراض والامتعاض؟؟!!
المؤيدون من جهتهم، سواء باعتبارهم معنيين بالأمر بشكل مباشر أو غير مباشر، أو متعاطفين، أو على الأقل متابعين منصفين، يرون بضرورة استفادة حاملي الشهادات من الدرجة الملائمة لها بحكم القوانين الجاري بها العمل(في مجال الملاءمة)، دون قيد أو شرط أو تماطل..
والحال أن نظرة الفئة الأولى فيها كثير العسف والتجني والمغالطة. بل هي تحوير لمجرى الأحداث وتعويم لسير الأمور، يرقى لرتبة التدليس والتلبيس، وحتى النزر القليل الذي نجا من هذا الحكم يبقى كلام حق أريد به باطل.. وتبيان ذلك كما يلي:
* بالنسبة لنزيف مالية الدولة والأخطاء السابقة التي أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس هذه، هذا كلام صحيح، ولكن الناس يغفلون ويتجاهلون نقطا وجب التذكير بها:
- من قام بتلك الاختيارات الخاطئة، ومن نفذها برعونة، وتفنن في أساليب التبذير والبذخ، والنهب والتهريب، وعرقلة نهوض الاقتصاد الوطني وتخريب القائم منه... هم نفسهم بالضبط من لا يزالون يتداولون أمر العامة، من أقصاهم إلى أدناهم، كل من موقعه الثابت أو المتحرك.. بل حتى بالنسبة للمتحركين أغلبيتهم شركاء في حكومة الشعارات المتناقضة هذه!! فكان من الأولى محاسبتهم ومطالبتهم برد الأمانات إلى أهلها على أقل تقدير، كشرط لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية واسترجاع شيء من ثقة المواطن في ماهية الوطن!! كان من الأولى طرد العفاريت واصطياد التماسيح حفاظا على الإنسان والغزلان.. كان من الأجدر فتح الأوراش الكبرى للإصلاح الموعود، والقيام بإجراء على أرض الواقع تمس تلك الفقاقيع الهوائية التي أطلقتها بعض وزارات الحكومة في البداية، عندما نشرت لوائح هنا أو هناك..
إنهم يتبادلون الأدوار، ويشرعن بعضهم لبعض حالة الاستبداد السياسي السائد فقط ليس إلا..
- لإيقاف النزيف لجأ حكام الدول المحترمة للأثرياء الذين يعملون على مراكمة ثرواتهم ومضاعفة أرصدتهم، وليس للفقراء الذين يحرصون على البقاء على قيد الحياة!! لجأوا لمضاعفة الضرائب على أصحاب المداخيل المرتفعة -ليس آخرهم الرياضيون المحترفون-، والحرص على عدم إفلات أي أحد من تسديد ما بذمته، وحسن التصرف في الملك العمومي بتدبيره تدبير المالك الخاص لمِلكه، وليس بعقلية "المال السايب"..
- إن من يعاني من الأزمة لا يمكن أن يمرر ميزانيات في البرلمان دون مناقشة، ويحتفظ بأجور عليا هي من أعلى الأجور في العالم، بل لا يجرؤ على ذكرها أصلا، ويطلق يد السلطة السياسية في الاستثمار دون مراعاة ما لذلك من أثر على المنافسة من جهة، ومن جهة أخرى استغلالها لنفوذ قوتها من أجل الحصول على ما تريد، وكيف تريد، وعدم أداء ما يجب أن يكون بذمتها من مستحقات..
- من يعاني الأزمة لا يعتمد اقتصاد الريع والأعطيات والمنح والهبات والحظوظ والحظوات..
- من يعاني الأزمة لا يخصص مخصصات عينية فارهة لموظفيه السامين ولشلة برلمانييه ووزرائه ويعتمد لهم تقاعدا عن دورة انتخابية يساوي عشرات أضعاف متقاعدين كدوا لأكثر من أربعين سنة؟؟!!
- من يعاني الأزمة لا يوشح صدور عراة لا يذْكرهم النبل بخير، بملايين الدراهم أو الدولارات.. يهدر أموال الشعب ويشجع على الرذيلة؟؟
عندما تحققون هذا العدل: مناقشة كل الميزانيات بوازع التقشف والحرص على المال العام، العمل على أن يؤدي كل ذي ثروة ما بذمته من مستحقات، السعي إلى أن لا يستفيد أي أحد من ملك عمومي إلا بوجه حق يتنافس في الحصول عليه مع نظرائه، إلغاء كل العطايا وأداء المستفيدين من خدمات أو رخص لمقابل مادي لخزينة الدولة، مراجعة الأجور ووضع علاقة بين أعلى الأجور وأدناها كما هو معمول به لدى الدول الديمقراطية، منع السلطات السياسية من المزاوجة بين السلطة والثروة... عندما يتحقق هذا، ولا يكفي لتقوم قائمة الدولة، فآنذاك الشعب المغربي كله مستعد أن يتخلى عن كسرة خبزه ليحيى الوطن!!
- ظرفيا، يعبر المحتجون عن استعدادهم للالتزام بعدم المطالبة بمستحقاتهم المادية في الوقت الراهن بعد تسوية وضعيتهم..
* مسألة تحمل الدولة لعبئ التعليم ليست منة ولا صدقة، كل ما هنالك أن أرزاق المجتمع انتُدب زمرة من الناس كي تحصلها وتنفقها عليهم، وكل من لم يستطع أن يتوفق في هذا ما عليه إلا أن ينسحب بهدوء، وله علينا ألا نستجدي بقاءه، فلا زال في الشعب بقية..
* علاقة متابعة الدراسة بتأمين الزمن المدرسي، على مستويي الحضور في المدرجات أو الاستذكار والمراجعة والتهييء، هي علاقة مشبوهة بالفعل في كثير من الأحيان، ولكن من عليه إزالة هذه الشبهة عنها هي الإدارة وليس غيرها، بقطبيها الإداري والتربوي.. فلا يجب عليها التنصل من مسؤوليتها..
* ضعف مستوى الحاصل على الشهادة أيضا ليست مسؤوليته.. فالناس ليسوا ملائكة، وقد جبلوا على النهل من اليسير، لذا فمنطقي جدا -مع ظهور فساد الذمم سواء عند الطلبة أو منتسبي التعليم العالي، ثم تطور تقنيات الغش سواء "الورقي" أو "الصوتي"...- أن تظهر شهادات عليا ليس لصاحبها منها إلا التعريف بهويته!! فظهرت بالتالي: "دكتوراه كوبيي كولي"، و"دكتوراه باك صاحبي"، و"دكتوراه المزاد العلني"، و"دكتوراه اللحم الحي"... وفي كل الأحوال فالمسؤولية للمسؤولين، إذ كيف تمنح شهادة ثم تشكك فيها حتى لو كانت بالفعل محل تشكيك؟! مهمة الدولة ضبط مواطنيها ومنعهم من الغش والتدليس...
* رفع المستوى الأكاديمي وشرف العلم، أنتم من عمل على اضمحلاله بترسيخكم ثقافة الكائن الخبزي، وثقافة "جوع كلبك يتبعك"، وثقافة "شحال عندك شحال تسوى"!! وبالتالي عملتم على اندحار القيم المعرفية والمعنوية بصفة عامة..
ثم إنكم أنتم من كرستم بقوانينكم الهوجاء ثقافة الشهادة عوض الكفاءة، فتجد موظفان يقومان بنفس العمل تماما، وأجرة أحدهما تساوي ثلاثة أضعاف أجرة الآخر، بل وارد جدا أن يكون صاحب الأجر الأدنى هو من يصلح ما يفسده صاحب الأجر الأعلى!!
* مطالب الناس لا تتوقف صحيح، ولكن من جهة هي سنة الله في الخلق أن يطمح للأحسن، ومن جهة أخرى فطموح هؤلاء المساكين المشروع بالقانون والواقع والأخلاق، لا يساوي شيئا أمام طمعكم الشره الذي يطبق قاعدة: "اللي شفتها ديالي، واللي ما شفتهاش عندي فيها النص"..
* من الناحية العملية، ولحل معضلتي الخصاص والفائض والتأثير على توزيع الأساتذة بين الأسلاك التعليمية، فإن حلولا يمكن أن تُبلور:
. فتح باب التباري من أجل التوظيف فقط في التعليم الابتدائي الذي يكون أطره قد تحولوا إلى التعليم الثانوي التأهيلي؛
. الاحتفاظ بمن غير إطاره بالتعليم الابتدائي(بعد توقيع التزام مصادق عليه) بسلكه الأصلي إلى غاية استفادته من الحركة الانتقالية إلى الثانوي حسب الحاجة.
أما لإيجاد حل نهائي لهذه المعضلة، فتمكن معالجة أسباب هذا الزحف من الأصل وذلك بالقضاء على أسبابه والتي تكمن في فتح المجال للترقي خارج السلم بالنسبة للمتضررين، وتوفير ظروف للعمل بوسط فيه الشروط الدنيا للحياة، وتقليص ساعات العمل. وتذويب هذه الفوارق ممكن جدا للخضوع لقاعدة العرض والطلب وذلك عبر خلق حوافز.
ففتح باب الترقي إلى خارج السلم بالنسبة للابتدائي لن يمنع الشمس من الشروق، بل يكون فيه إحقاق لحق وتصويب لخطأ وتدارك لحقوق طبقة أتخمت من ظلم السنين.. كما تشكل المؤسسات الجمعاتية -المجهزة بالمساكن والطرق والماء والكهرباء والشبكة العنكبوتية- في الأحواض المدرسية حلا لمشكلة ظروف العمل في الفيافي والمنافي. أما بخصوص ساعات العمل فيمكن المساواة بينهم بطريقة ما.. الأكيد أنه إذا تحققت هذه المطالب فلن تجد من يطالب بتغيير إطاره، بل يمكن أن لا تجد من يتابع دراسته أصلا من الموظفين!! المقصود أنه أوجد تحفيزا للعاملين بالابتدائي ولن يحدث عندك أي اضطراب!!
* ونصل في الأخير إلى مسألة القانون هاته التي يتشدقون بها، فنسأل: من وضع هذا القانون؟ أليسوا أناسا؟ ألا يمكن لقانون جائر أن يتم تغييره؟ ألم يكن قبله مباشرة قانون في مصلحة هؤلاء المترشحين؟ ألا تغيرون ما بدا لكم من قوانين لا تساير مصالحكم؟ ثم ألم توظفوا قبل هذا أناسا يحملون شهادات عليا بشكل مباشر في الدرجة التي يطالب بها المحتجون اليوم؟ من الأولى: هل ترقية من توظف بمباراة أم توظيف حامل نفس الشهادة في نفس الدرجة، وهذا دون مباراة؟؟!!!! إذن كان الأولى أن يكون متكاسلا حتى لا ينجح في المباراة!!! ماذا تعني الترقية الآن بمباراة؟ ولماذا يرفضها المحتجون؟ لأن المباراة بكل بساطة تقتضي من ضمن ما تقتضيه مفهوم الكوطا، إذن، انتظر!! ثم تأخير الاستفادة المادية من تاريخ الحصول على الشهادة إلى تاريخ النجاح في المباراة، ولو استغرق الأمر سنين!!
قد تتعدد أشكال القوانين وصيغها ودرجاتها ومصدرها... لكن الثابت أن روحها يجب أن تحصن حقوق الناس وتحمي مصالحهم..
بمرارة: كل ما في الأمر أنكم مررتم في أيام معدودة ما لم يمرر، ولم يكن ليمرر في سنين، فسننتم سنة سيئة تكون معلما ومرجعا في قادم الأعوام!!!
ضمير
رائع
تحية لصاحب المقال ولصدقه وحبه الخير لوطنه،لكن: أسمعت لو كنت تنادي حيا ،،،،،هيهات لا حياة لمن تنادي