محمد أديب السلاوي
الفقر، كلمة باهظة، قاسية، ثقيلة، مرعبة، تسكن الإنسانية بقوة الواقع، وبقوة السياسات والظرفيات المحلية والعالمية المتعاقبة، فهو (أي الفقر) ظاهرة قديمة جديدة في التاريخ البشري، تتقلص وتتسع في الشعوب حسب ظروفها ومواقعها وسياساتها وأنظمتها الداخلية والخارجية، وهو ليس حالة واحدة، بل حالات متعددة الصفات والأشكال، تختلف من نظام إلى نظام، ومن قارة إلى أخرى، ومن حضارة إلى حضارة، إلا أن عهد العولمة، وضع للفقر تعريفات، قد تتناسب وحالات الفقر المنتشرة بقوة في أركان الأرض، من حيث الأرقام، ولكنها قد تختلف في أثارها على الإنسان في هذه الأركان.
ورد في قواميس اللغة: الفقر ضد الغنى، والفقير هو من يجد القوت، والمسكين من لا شيء له. وورد في تعبير آخر: الفقير هو المحتاج، والمسكين هو من أذلته الحاجة .
وجاء في مفاهيم البنك العالمي: الفقير هو الذي لا يحصل على الحد الأدنى من معيشته .
وبالنسبة لهيئة الأمم المتحدة: الفقير هو الذي لا يتجاوز دخله دولارا واحدا في اليوم..
ويرى خبراء علم الاجتماع: أن لظاهرة الفقر في عالم اليوم، أكثر من علاقة بالفساد. الفقر في البناء الوظيفي الاجتماعي، هو إحباط اجتماعي، ناتج عن عدم المساواة، لذلك أصبحت تندرج في خانة الفقراء، العديد من الفئات مثل المعدمين الذين لا يملكون شيئا، والعمال الأجراء ممن يملكون قوة العمل لا غير، وأيضا صغار الملاك وصغار التجار وصغار الموظفين والحرفيين والباعة المتجولين. وغيرهم من مظلومي السياسيات الجائرة.
في نظر باحث مغربي: لا ينحصر الفقر في ضعف نسبة الدخل، بل يتعدى ذلك إلى التفاوت في فرص الاندماج في المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، إذ تتجلى مظاهره في صور متعددة، منها بالأساس: الأمية، الجهل، البطالة، تشغيل الأطفال، التشرد، التسول، ضعف القدرة الشرائية، سوء التغذية، المرض.
-2-
وبالنسبة للمغرب، أعلن التقرير الوطني حول السياسة السكانية (الصادر عن اللجنة العليا للإسكان) أن سبعمائة وثمانين ألف (780.000) أسرة تعيش فقرها المدقع في “مساكن” هامشية. وأن تراجع نسبة نمو الدخل الفردي وصل إلى 0.1% بسبب الجفاف وفقدان العمل والبطالة طويلة الأمد والمرض المزمن والترمل والطلاق وغير وغيرها .
ويفيد هذا التقرير أيضا، أن سكان العالم القروي، أكثر فقرا من سكان العالم الحضري، وأن جهات في وسط وشرق وغرب المغرب، هي الأكثر تضررا من الفقر وأن الأسر التي تعيلها النساء والأطفال تعد الأكثر فقرا.
وتقدر مصادر شبه رسمية، أن عدد السكان الفقراء الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، قد يصل إلى ستة ملايين نسمة، يمثل سكان العالم القروي منهم حوالي سبعين في المائة (70%)).
وتفيد العديد من البحوث العلمية حول الفقر في المغرب، أن الدخل الفردي للمغاربة تطور بوثيرة منخفضة خلال التسعينات من القرن الماضي، ويمكن اعتبار ارتفاع البطالة في المدن خلال الفترة الراهنة، إشارة واضحة لانخفاض دخل الأسر المغربية، خاصة تلك التي يكون الراتب الشهري هو المورد الوحيد الذي تعتمد عليه الأسرة في تلبية حاجياتها الأساسية .
هكذا، تكون العمليات الإحصائية، وبحوث الخبراء والمختصين، قد كشفت أن ما يقرب من ثمانين في المائة (80%) من الأسر المغربية، تعيش فقرها بصمت، وهو أمر لم يندهش له أحد، لأن الذين قاموا بالعمليات الإحصائية، يعلمون أكثر من غيرهم، أن عوامل شتى تضافرت على مر السنين، لم يكن لها سوى خلق المزيد من الفقر، بالنسبة للفئات الواسعة من المواطنين.
وبالنسبة للمحللين الاقتصاديين، أن حالة الفقر التي تفجرت في المجتمع المغربي على مراحل، وبإيقاع تصاعدي، لم تستند فقط على مؤشرات النمو الديمغرافي الغير خاضعة لأي تخطيط، ولكنها أيضا ارتكزت على انعدام التخطيط الاستراتيجي، وعلى عدم توجيه الاستثمارات إلى القطاعات المنتجة، التي تعتمد التوازن والفاعلية، كما استندت على الإشكالية التي طبعت/ تطبع علاقة الجماعات والأفراد بالدولة. وعلى إشكالية تهرب القطاع الخاص من تحمل مسؤولياته، وعلى الفساد المتعدد الصفات والأهداف، الذي طبع مرحلة هامة من التاريخ الإداري والمالي والسياسي للبلاد.
ولاشك أن الارتفاع الفاحش للمديونية الخارجية، كارتفاع الفاتورة الطاقوية، وسقوط الأسعار العالمية لكثير من المواد الأولية (منها أسعار الفوسفاط الذي يعتبر منتوجنا الأساسي) كارتفاع فوائد القروض، عوامل إضافية أخرى، قلصت حتما ما كان بإمكاننا استثماره من المنتجات الوطنية، وكرست حالة الفقر المتفجرة إلى جانب ظواهر الفساد، لتصبح النتيجة ثقيلة ومرعبة.
هكذا استمرت مؤشرات الفقر في الصعود، رغم العمليات الوقائية، حيث عملت السلطات الحكومية بسياسة التقشف وتقويم الحسابات، إلى تصعيد وثيرة الفساد الإداري/ المالي/ السياسي، (انتشار الرشوة/ نهب المال العام/ تزوير الإنتخابات…) وإلى إفراز طبقة صغيرة من الأثرياء الجدد، وطبقة غير محدودة من الفقراء الجدد، خارج كل منطق وكل عقلانية سياسية .
لا نريد في هذه المقاربة أن نتحدث عن ذلك الصنف الآخر من الفقر الذي يتغلغل في أعماقنا في صمت، والذي نعتم عليه بقصد أو بغير قصد. والذي يطلق عليه الخبراء، الفقر التكنولوجي المركب، يبرز بسرعة عند استعراض الحاجيات التي يتطلبها منطق العصر/ عصر الحداثة والعولمة والألفية الثالثة، بمقاييسه القائمة، ومعاييره الضائعة، لا نريد أن نتحدث عن هذا الفقر، لأنه خارج السيطرة بكل المقاييس .
-3-
إشكالية الفقر في المغرب الراهن، باتساع رقعتها، وامتداد آثارها السلبية تطرح أسئلة صعبة وملحة، على مستوى الأجهزة الرسمية، كما على مستوى المجتمع المدني/ على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي/ كما على المستوى الثقافي، ذلك لأن الفقر كقضية/ كواقع، تجاوز كل الخطوط الحمراء وضرب بقوة وعنف، كل الفئات والطبقات، خارج كل المفاهيم السياسية والاقتصادية، التي حددتها المنظمات الدولية لمستويات الفقر وإشكالياته، وهو ما أثر/ يؤثر على الأمن الاجتماعي في تجلياته ومستوياته المختلفة.
وتبرز معطيات البحوث حول مستوى العيش، والبحوث حول استهلاك ونفقات الأسر التي أنجزتها وزارة التوقعات الاقتصادية والتخطيط بالمغرب،في السنوات القليلة الماضية، أن نفقات أغلب السكان تقترب من عتبات الفقر، وتوضح أن الفقر النقدي المطلق، أصبح يصيب واحدا من أصل خمسة مغاربة في الوسط القروي وواحد من أصل عشرة بالعالم الحضري.
وبالنسبة للمحللين الاقتصاديين، أن حالة الفقر التي تفجرت في المجتمع المغربي على مراحل، وبإيقاع تصاعدي، لم تسند فقط على مؤشرات النمو الديمغرافي الغير خاضعة لأي تخطيط، ولكنها أيضا ركزت على السياسات الحكومية الفاشلة، وعلى الفساد الإداري/ المالي/ الأخلاقي/ السياسي المتداخل. وبالتالي على عدم توجيه الاستثمارات إلى القطاعات المنتجة، التي تعتمد التوازن والفاعلية . كما استندت على الإشكالية التي طبعت وتطبع علاقة الجماعات والأفراد بالدولة. وعلى إشكالية تهرب القطاع الخاص من تحمل مسؤولياته. وعلى الفساد المتعدد الصفات والأهداف، الذي طبع وما زال يطبع، مرحلة هامة من التاريخ الإداري والمالي والسياسي للبلاد.
ولا شك أن الارتفاع الفاحش للمديونية الخارجية،كارتفاع الفاتورة الطاقوية، وسقوط الأسعار العالمية لكثير من المواد الأولية (منها أسعار الفوسفاط الذي يعتبر المنتوج الأساسي للبلاد) كارتفاع أسعار فوائد القروض، عوامل إضافية أخرى، قلصت حتما ما كان بالإمكان استثماره في المنتجات الوطنية، وهو ما كرس حالة الفقر المتفجرة إلى جانب ظواهر الفساد الأخرى، لتصبح النتيجة ثقيلة ومرعبة.
-4-
هكذا استمرت مؤشرات الفقر في الصعود، رغم العمليات الوقائية والترقيعية التي واجهت الفقر، حيث عملت السلطات الحكومية في العقود الأخيرة، بسياسة التقشف وتقويم الحسابات، لكن تصعيد وثيرة الفساد الإداري، المالي/ السياسي، ( انتشار الرشوة ونهب المال العام وفساد المؤسسات العامة، وتزوير الانتخابات…) أدى إلى إفراز طبقة صغيرة من الأثرياء الجدد وطبقة غير محدودة من الفقراء الجدد، خارج كل منطق وكل عقلانية سياسية.
في نظر العديد من المحللين والمراقبين، أن الأسباب العميقة لبروز ظاهرة الفقر في المجتمع المغربي، لا تعود فقط للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة، أو إلى سياسة التقشف والتقويم الهيكلي التي استمرت لعدة سنوات، ولكنها تعود بالأساس إلى تصعيد وثيرة الفساد الإداري/ المالي/ السياسي، ذلك أن مظاهر البذخ والتظاهر بالغنى والتنافس في ميدان الترف، وانتشار الرشوة والزبونية واستغلال النفوذ والمحسوبية والانتهازية ونهب الأموال العمومية، كرس الفقر، وأفرز طبقة طفيلية صغيرة من الأثرياء والمترفين المستلذين، بالحياة والفسوق والعصيان والاستهانة بالأخلاق على حساب شعب كامل من الفقراء التعساء.
وعلى أن الفساد قديم في بلادنا فإن أصوله في مغرب اليوم، تختلف عن أصوله في الأزمان الغابرة... اليوم تتفق الدراسات والأبحاث الأكاديمية والميدانية، على أن الفساد السياسي هو أصل كل "المفسدات" الأخرى، هو الذي وضع المغرب على حافة الفقر المدقع/ هو الذي أذى إلى تخريب قيم المجتمع، وإشاعة التسفل بين فئاته، فطالما استمر هذا الفساد، ونحيت الأمة عن مسؤولياتها في رقابة الشأن العام، ورقابة الذين يديرون إدارته وسلطاته، استمر هذا الفساد وتكبر وتجبر واتسعت أعراضه، لتصبح ظاهرته منظومة قائمة ومتسلطة، لا تنحصر آثارها في قطاع معين، ولكنها تمتد إلى فساد أعم: الفساد الأخلاقي/ تهريب المخدرات/ انتشار الأمراض الفتاكة/ انتشار الجريمة/ توسيع دائرة الأمية والبطالة/ تهريب السلع والبضائع/ التملص من الأداء الضريبي/ الانتشار المهول للعهارة والاتجار الجنسي، ذلك لأن هذا الصنف الرفيع من الفساد يعتمد على نخبة مخدومة، عملت/ تعمل على توزيع مصالح الشعب، وتوزيع المسؤوليات المتحكمة في أمواله وسلطاته على الأبناء والأقارب والأصدقاء والأصهار والمتمسحين بأبواب أصحاب النفوذ والوزراء، وغالبيتهم ينحدرون من هذه النخبة... التي جعلت من الفساد منظومة متكاملة، متوحدة المرامي والأهداف... في الزمان والمكان.
-5-
إذن، كانت تلك هي العوامل التي وضعت المغرب بثرواته البشرية والثقافية والحضارية والفلاحية والبحرية والمناخية والسياحية، على لائحة البلدان الفقيرة، مع أن الواقع يقول عكس ذلك تماما.
المغرب بلد زراعي، تغطي أراضيه الصالحة والقابلة للاستصلاح، ملايين الهكتارات. من المفترض أن تحقق فلاحته الاكتفاء الذاتي في التغذية، في الحبوب والزيتيات والسكريات واللحوم والألبان، وغيرها من المواد التي أصبح يستوردها علانية، وبلا رقابة أحيانا، وأراضيه الزراعية قادرة على تشغيل ملايين الفلاحين و الأطر الفلاحية.
والمغرب بلد بحري، شواطئه طويلة وعريضة، تطل على بحرين عظيمين، وثرواته السمكية لا تحصى ولا تعد، تقول الأرقام أن البحر المغربي، قادر على تزويد المغاربة بمليوني طن من الأسماك سنويا، وأن قطاع الصيد البحري قادر على تشغيل أزيد من مليون من المواطنين.
والمغرب بلد منجمي يملك 60% من الاحتياطي العالمي من مادة الفوسفاط، ويملك مناجم الحديد والنحاس والذهب والفضة والحامض الفسفوري والأورانيوم والصخور النفطية… وربما النفط نفسه، وقادر على تشغيل مئات الآلاف من العاملين.
فكيف لبلد على هذه الصورة من الثراء، يملك ثروات الأرض وثورات ما في باطنها، يملك البحر وما يحويه في باطنه من ثروات، ويملك الإنسان وطموحاته، وهو مسجل على لائحة الفقراء… وعلى لائحة البلدان الأكثر فقرا… إنها معادلة “صعبة” حقا… ولكن الفقر حقيقة لا مناص منها.
تقول كتب التاريخ والجغرافيا، أن المغرب غني بموارده الطبيعية والبشرية، وبأراضيه الزراعية، وبمصادره المائية وبثرواته البحرية والمعدنية، وتقول تقارير الباحثين والدارسين، أن المغرب واحدا من بلدان العالم الفقيرة، يعاني من أزمات متعددة ومتداخلة تعيقه عن السير، وعن القفز وعن المغامرة.
أين تغيب المعادلة وأين تحضر، ولماذا نحن أغنياء بمواردنا وفقراء في واقعنا؟
سؤال نطرحه مباشرة على الذين يخططون للسياسات الصامتة في بلادنا، دون أن ننتظر منهم جوابا مقنعا.
-6-
طبعا هناك خطابات سياسية متعددة، تواجه “فاعلية” الفقر وتحدياته. الحكومات المتعاقبة تحدثت دائما عن الإصلاحيات التي من شأنها تذويب هذه "الفاعلية"/ فاعلية الفقر. تحدثت عن تأهيل النسيج الاقتصادي، عن تقوية المقاولة المغربية، عن تحديث أنظمة وآليات الإنتاج، عن تفعيل مراكز الاستثمار، عن إخراج مدونة الشغل، عن إصلاح القضاء واستقلاله، عن تكريس الأخلاق المهنية، عن إصلاح الإدارة ومحاربة الفساد، وإحداث مناصب الشغل، عن الاعتراف بدور المرأة ومواطنتها الكاملة، عن إدماج التراث الثقافي في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية، عن إصلاح التعليم، عن ترجيع مبدأ التشارك مع الفاعلين الاقتصاديين و الاجتماعيين… وتحدثت عن خلق جو من الثقة والشفافية والموضوعية بين الدولة والفاعلين، وعن بلورة إستراتيجية للتنمية في العالم القروي، وعن تطوير فاعلية التكوين المهني، وعن محاربة كل أشكال الانحراف واستغلال النفوذ وفساد المال العام والرشوة والمحسوبية والزبونية والانتهازية… ولكن مع ذلك ظلت مؤشرات الفقر مرتفعة، وظلت الخطابات السياسية للحكومات المتعاقبة حبرا على ورق، وظل المواطن حائرا، مهمشا، محبطا،لا يعرف أين تغيب المعادلة ولا أين تحضر.
خارج هذه الحقيقة، تبرز في مغرب اليوم، حيث يتبنى الملك الشاب، الأوراش الإصلاحية الكبرى، أسئلة ملحة وعلى قدر كبير من الأهمية: ماهية الإجراءات التي سيواجه بها جلالة الملك، الفساد المالي/ الفساد الإداري/ الفساد السياسي، والتي سيواجه بها الفقر الذي اتخذ شكل الظاهرة المخيفة التي هددت ومازالت تهدد كل خطط التنمية والإنقاذ في عهده الجديد..؟
كيف ستواجه الإجراءات الملكية، ظواهر أطفال الفقر والتسول والعهارة والجريمة والعنف القسري والرشوة والمحسوبية والانتهازية وكل مظاهر الإحباط الاجتماعي و الاقتصادي وغير ها من الظواهر السلبية الناتجة عن الفقر والفساد، والمتناقضة مع أهداف ومبادئ حقوق الإنسان التي ألح عليها الخطاب الملكي منذ اعتلاء جلالة الملك عرش أسلافه المنعمين.
طبعا لا أحد يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة… ولكن الحالة التي تطبعنا، وتخيف أجيالنا الصاعدة، تجعلنا على ثقة أن الجواب عنها سيأتي حتما، من طرف أجيال المغرب الصاعدة.
لا بأس من القول، ليس من العيب أن نكون فقراء، نعمل من أجل التخفيف من أثاره المؤلمة، بأساليب واستراتيجيات عتيقة، ولكن العيب كل العيب أن نتستر عليه، وأن نرفض احتجاج الذين يقاسون من ويلاته.