اسماعيل الحلوتي
كم كنت أتمنى صادقا كأب مقهور ومرب سابق مغمور، أن يأتي يوم قبل إحالتي على المعاش، أرى فيه إحدى حكوماتنا الموقرة تأخذها عزة النفس، ويحركها الحس الوطني لتجعل ضمن قائمة أولوياتها تنزيل قانون تنظيمي للإضراب رفقا بأبنائنا ومدرسيهم، وإنهاء مسلسل هدر الزمن المدرسي الرهيب، وهو قرار لن يتطلب منها إطفاء الشمس ولا إحراق القمر، بقدرما يستدعي جرأة وإرادة سياسية قويين، فها أنا أركب قطار التقاعد دون أن يستجيب بشر ولا قدر لأمنيتي، وأخشى أن يغيبني الموت ويظل الحلم معلقا تتوارثه الأجيال...
ففي ظل ما يشكوه بعض "المناضلين" من انعدام الشفافية والديمقراطية، في انتخاب الأجهزة الإدارية والتقريرية في المركزيات النقابية الكبرى، وتفرد قيادييها "الخالدين" بجميع القرارات المختلفة، تناسلت بيننا كالفطر نقابات تعليمية صفراء، لا يشغل بال أصحابها سوى البحث عن موطئ قدم لإثبات الذات، وإعادة إنتاج نفس الزعامات المتسلطة والمستبدة، ليتحول المشهد النقابي إلى سوق عشوائية، وتزداد الأوضاع التعليمية اختناقا وارتجاجا، تعالت درجات القلق في صفوف الأسر خوفا مما يتهدد مستقبل أبنائها، شجبت ونددت، ولم تجد آذانا صاغية إلى هتافاتها المدوية، فاستنجد بعضها بالساعات الإضافية والبعض الآخر بالمؤسسات الخصوصية فيما السواد الأعظم ظل يندب حظه التعيس، بعدما أفقد التشرذم النقابي المدرسة العمومية مكانتها، وأفرغتها الصراعات غير المتكافئة مع الحكومات المتعاقبة، من رسالتها التربوية النبيلة وإشعاعها الثقافي، لتنتهك براءة أبنائنا ويحولهم الاستهتار إلى "ذروع بشرية" تتلقى الضربات الموجعة، وصارت بطاقة انخراط في نقابة ما بمثابة جواز مرور تخول لصاحبها تجاوز "الحدود" دون حسيب ولا رقيب...
ما من ريب في أن الإضراب حق مكفول بمقتضى الفصل 14 من الدستور، وهو توقف جماعي عن العمل يستهدف الضغط على السلطة المالكة لحق الرد على المطالب، التي من أجلها يناضل المرء لانتزاع حقوقه المشروعة، على أن يكون في حدود القوانين ووفق ضوابط أخلاقية معينة وأحكام محددة، ويقوم أيضا للإشعار بالامتعاض من أوضاع تبدو متدهورة ومزرية، والتعبير عن الاحتجاج ضد بعض المشاكل المرتبطة بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أنه في ظل تعنت الحكومات ولعدم صدور قانون تنظيمي منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، يتم اللجوء إلى استغلال هذا الفراغ القانوني في إطلاق العنان للنزوات الذاتية، والإساءة إلى المفهوم العام للإضراب وتجريده من مقوماته النضالية، لقد أضحى في أيدي بعض المتهورين ورقة "حمراء"، يشهرونها متى شاءت أمزجتهم وحسب أجنداتهم، في وجوه الحكومات لتحقيق مآربهم، وأصبح بذلك أداة طيعة لإحداث الشغب والفوضى، المعاقبة الجماعية والمس بحقوق الآخرين...
وبما أن الجميع يدرك جيدا ما لتغيبات رجال التربية والتعليم، من انعكاسات وخيمة على الحياة المدرسية للمتعلمين، ومن تأثير مباشر على تحصيلهم وإضرار بحاضرهم ومستقبلهم، فإنه يتعين الحرص على مصلحتهم بتأمين الزمن المدرسي وحسن تدبيره، باعتباره لبنة أساسية في بناء صرح المدرسة العمومية، ويساهم في تحريك عجلة التنمية البشرية المستدامة في الاتجاه الصحيح، لذلك يقتضي الواجب المهني إسقاط المتعلم من الحسابات الضيقة والمزايدات النقابية والسياسية، حفاظا على حقه في الاستفادة الكاملة من غلاف حصصه الدراسية السنوية تبعا لما هو مبرمج، لضمان تكافؤ الفرص بين جميع أبناء الشعب في التعليم العام والخاص على حد سواء، والسعي الحثيث إلى ترسيخ منظومة القيم الإنسانية وثقافة الالتزام بالوقت والوعي بتحمل المسؤوليات، بيد أننا وجدنا أنفسنا نسير عكس تيار التقدم الحضاري، بعدما أصبح قطاع التعليم علاوة على ما يعرفه من اختلالات تشده إلى الخلف والتخلف في مستويات عدة خاصة منها البرامج والمناهج، يعيش منذ سنوات تراجعا صارخا في العطاء، على وقع ارتفاع حرارة الاحتجاجات وتواصل الإضرابات، بطرق مبتذلة ومجانبة للصواب، تمس في العمق بالحق في التعليم، الذي كفلته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، إذ لا يعقل أن يؤدي تلامذتنا فاتورة تشتت النقابات، فيما الملفات المطلبية تكاد تستنسخ بعضها، حيث تخوض كل نقابة على حدة إضرابها الخاص في تواريخ متقاربة، لدرجة بتنا نسجل أن البعض ينخرط في كافة الإضرابات حتى دون معرفة مسبقة بأسماء النقابات الداعية لها ولا ملما بقائمة مطالبها، مما أساء إلى العمل النقابي وأضر بالمغزى العميق للانتماء إليه. ترى أين نحن من رجل التعليم الذي كان بأخلاقه الفاضلة وضميره المهني اليقظ وسلوكه المدني القويم، يجسد التضحيات الجسام في أبهى تجلياتها من أجل النهوض بمستوى تلامذته؟ لقد كان نساء ورجال التربية التعليم يستمدون قوتهم، من حرصهم الشديد على القيام بواجباتهم التربوية بروح وطنية صادقة وتقدير للمسؤولية، وكانوا يمثلون القدوة الحسنة للجميع...
قد نقف مع كل مضرب يدافع عما يراه حقا مشروعا، نعاضده بقوة ونناضل إلى جواره بكافة السبل الكفيلة بإحقاق الحقوق، شريطة عدم المساس بمصالح الآخرين، خاصة ما يتعلق بنساء ورجال الغد من المتعلمين، الذين لا جريرة لهم في ما يجري من صراعات بين المركزيات النقابية وأخواتها الطفيلية مع الحكومات "المتلاشية"، سوى الرغبة في صون حقهم الدستوري، الحفاظ على كرامتهم الإنسانية والأمل في تحقيق أحلام أسرهم التي تسترخص الغالي والنفيس من أجل بناء مستقبلهم المشرق، ولا نقبل التغاضي عن حقوق الشغيلة، لتتواصل المهازل تتحكم في حياتنا ومصائر فلذات أكبادنا، سيما أن الإضراب زاغ عن مقاصده وفقد جديته وجدواه بتواطؤ المسؤولين، عندما تحول إلى أسلوب رديء لزرع الفتنة، نشر الفوضى وعرقلة السير العادي للمرافق العمومية الأكثر حيوية، وانعكست آثاره السلبية على الحياة العامة للمواطنين، ومما يؤسف له أننا في أوج التغني باستثنائيتنا، بدستورنا المتقدم، وبما لنا من برلمان مضى على تأسيسه خمسون سنة، وما نتوفر عليه من كفاءات لها من القدرات ما يؤهلها لخلق المعجزات، لم يتمكن بعد صناع القوانين والقرارات، من وضع حد للتردد والحسم في صياغة قانون تنظيمي للإضراب يحد من أشكال الميوعة والاستخفاف القائمين، وبالنظر إلى أن حكومة السيد ابن كيران تملك قدرة خارقة على إنزال العقوبات بدل الاستجابة للمطالب المشروعة وتنزيل القوانين وتفعيل مقتضيات الدستور، ساءها كثيرا أن تستمر الأوضاع على هذا النحو من الدوران في الفراغ، فإنها لاستكمال "مسار" ما تدعيه من إصلاحات واستقرار، وفي ضوء ما أقدمت عليه من إشعال فتيل الغلاء الفاحش، بالزيادات المتتالية في المحروقات والمواد الأساسية، وفق ما أملته عليها المؤسسات الدولية وحتمته الظروف الاقتصادية المحيطة، لإنقاذ البلاد من الانهيار حسب مزاعمها، لم تجد في متناول يدها من آلية ذات فاعلية لإيقاف نزيف الإضرابات، أكثر من ضرب القدرة الشرائية لمن يتزعمون حركات التمرد ضد عنادها، بالاقتطاع من رواتبهم الشهرية، وهو الحل السحري لردعهم وغيرهم من المستضعفين، وجعلهم أمام تدني الأجور وارتفاع كلفة العيش يتراجعون إلى الوراء، لكن الاقتطاعات الجائرة لم تزدهم إلا إصرارا على مواصلة الكفاح، في انتظار قدوم ربيع مغاير ومزهر...
فبوصول حزب العدالة والتنمية مركز الحكم عبر زجاجية صناديق الاقتراع، تكون خطوط دائرة إدارة الشأن العام بالبلاد قد اكتمل رسمها بجميع الألوان السياسية والنقابية، ولم يعد مسموحا الاستمرار في تبادل التهم، ولا مناص لحكومة السيد ابن كيران من المبادرة إلى إخماد النيران المشتعلة في الصدور، جراء سياساتها الفاشلة التي أضرت بالبشر والخضر وثمر الشجر، وساعدت على تنامي الاحتقان الاجتماعي، بممارساتها القمعية، التضييق على الحريات وتكميم الأفواه، التراجع عن المكتسبات وضرب القدرة الشرائية للمواطنين... والإغلاق الممنهج لمختلف قنوات التواصل والحوار الاجتماعي، والانفراد بالقرارات الحاسمة... وبغض النظر عن مشروعية الاقتطاع من أجور المضربين من عدمها، وما يترتب عنه من إضعاف للأداء المهني وإفراغ للجيوب عوض تجفيف آبار الريع واسترداد الأموال المهربة، فإننا ندينه كإجراء جبان يعبر عن محدودية أصحابه، كما نرفض القيام بإضرابات اعتباطية دون ضوابط ومرجعية قانونية، ونطالب بصدور القانون المنظم للإضراب، بتوافق الحكومة مع الفرقاء الاجتماعيين في إطار المنهجية التشاركية بعيدا عن مظاهر التشنج وأساليب الإقصاء، للانخراط الفعلي في الإصلاحات الحقيقية غير الوهمية أو الترقيعية...