عبد العالي زينون
مع اندلاع أولى شرارات الربيع العربي في تونس، والني ساهم الإعلام العربي "الموجه" من حدتها خصوصا قناة الجزيرة القطرية التي انحازت بشكل غير مسبوق لطرف على حساب الطرف الأخر في ضرب تام لمبادئ الحيادية والموضوعية، التي تعبر عها القناة ببند عريض "الرأي والرأي الأخر" وبالتالي بدأ الحديث عن هجر هذه القناة التي كانت إلى وقت قريب تحظى بالاحترام والتقدير.
فحسب آخر الدراسات حول نسب المشاهدة عبر ربوع الوطن العربي، مما كان يطلق عليه " المحيط الهادر إلى الخليج الثائر"، كشفت أن شاشة " الجزيرة" لم تعد لها تلك الهالة والحظوة لدى الجمهور العربي، وتمت الاستعاضة عنها بحكم المنافسة بقنوات عربية أو قنوات أجنبية ناطقة باللغة العربية . بعد أن كانت "الجزيرة" تستأسد في فضاءات المنتديات، وخصوصا عند بداياتها، بفعل عامل الإنبهار و الإفتتان" تجاه كل منبر إعلامي وليد، إلا أن المشاهد العربي أصابه الملل و الفتور تجاه هاته القناة.
هناك عدة عوامل مختلفة تعتبر مبررا موضوعيا لتأفف المشاهد العربي، منها التخمة الإعلامية، التي أصبحت تتسم بها برمجة القناة إلى حد الإسهال في التغطية التي تركز على الجزء الفارغ من الكأس والمتكررة النمطية لمواضيع سياسية بعينها وكأنها الأحداث الوحيدة التي تجري في العالم، مكرسة بذلك الخروج عن مبدأ الحياد في التعاطي مع الملفات السياسية المعقدة، وانكشاف خدعة شعار القناة " الرأي والرأي الآخر"، ذلك أن الجمهور العربي لمس الانحياز الواضح والمتعمد لخطها التحريري لحساب تيارات بعينها في مختلف البرامج الإخبارية والمجلات السياسية، والانتقاد اللاذع والوقح أحيانا كثيرة لبدان عربية دون سواها، واستثناء المضيف القطري من أي تلميح أو تجريح.
إضافة إلى تركيزها المبالغ فيه على طابع الإثارة وبحثها عن مناطق تدفق الدماء في بؤر التوتر بالعالم العربي و الإسلامي، كما لو أن المشاهد العربي "مصاص دماء" في حاجة لمزيد من مشاهد القتل المتكررة، دون أن نغفل الهجرة المكثفة لرموز إعلامية كبرى أعطت وهجا للقناة وصنعت مجدها ، مما جعلها تفتقر شيئا فشيئا للحس الصحفي الموضوعي والالتزام بأخلاقيات العمل المهني.
دون ان ننسى الفضيحة التي فجرتها صحيفة امريكية حول شراء ذمم وافكار بعض المحللين مقابل الصمت عن مواضيع تعتبرها القناة من المحظورات "خاصة إذا ما تعلق الأمر بالقضايا الداخلية التي تهم قطر والعائلة الحاكمة، والارتكاز في تحليلاتهم على مواضيع تتفق معهم " الجزيرة" مسبقا على زوايا تحليلها.
وكمثال على انكشاف خدعة تلك التحليلات التي تدعي الموضوعية، ما حدث أثناء لقاء على شاشة (الجزيرة مباشر) في برنامج للمذيع السعودي علي الظفيري، حين استضاف المحلل الفلسطيني-الإسرائيلي عزمي بشارة ، حيث لم يكن الرجلان يدريان، وهما يتفاوضان على قائمة المباح و المحظور في الحوار، أنهما على الهواء مباشرة، ويتفقان على لائحة الدول العربية التي يجب تسفيهها، وتجنب تلك التي تحظى ببركة القناة، فكان هذه الفضيحة المدوية حلقة في سلسلة الحلقات التي أعلنت بداية نهاية هيبة قناة لطالما استأسدت في العالم، ودفعت بها إلى التدحرج المتدرج في نسبة قياس المشاهدة لبرامجها.
إلا أن اندلاع ثورات ما سمي بالربيع العربي قبل ثلاث فتح الباب أمام القناة لاستعادة نشاطها، وبالتالي وجدت ضالتها المنشودة، وسلطت كاميراتها حيث تريد الأجندة الأمريكية -القطرية لتأجيج المشاعر وتحريك العواطف وتسليط الضوء على الحركات الإسلامية في دفة الصراع المحتدم بين الجماهير والسلطات في تونس ومصر وليبيا، وكأن التيارات الإسلامية هي وحدها من تزعم حركة الاحتجاجات، مهمشة بذلك على الحركات الشبابية المنفتحة، التي كانت فعلا البذرة الأولى للثورات الشعبية في تلك البلدان.
لقد تحولت " قناة الجزيرة " من منبر إعلامي مدافع عن قيم العدل والحرية إلى علبة كبريت إعلامية بين يدي التحالف الأمريكي القطري الإسرائيلي، للتركيز على نشاطات الجماعات الإسلامية، التي وجدتها فرصة سانحة لكي تقطف ثمار الثورة التي سقطت بفعل خريف سياسي إعلامي في فضاء ما اصطلح عليه "الربيع العربي".
غير أن فشل تجربة الحركات الإسلامية في إدارة السلطة، ألقى بظلاله القاتمة على هذه القناة التي التي أصبحت مثل "الإبرة في كومة القشة" التي تبحث عن مخرج من المتاهة التي قد تقودها إلى النهاية، وأصبحت تترصد نشوب صراع عربي لاستعادة مجدها المتهالك على أنقاضه من جديد.