ذ. عبد الغني العمرني الزريفي
الاستقامــة : تعريفها ومنزلتها
معنى الاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القيم ، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها ، الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها ، الظاهرة والباطنة (1 ).
وهي وسط بين الغول والتقصير ، وكلاهما منهي عنه شرعاً.
الاستمرار عليها ، والتقصير فيها
المؤمن مطالب بالاستقامة الدائمة ، ولذلك يسألها ربه في كل ركعة من صلاته : { أهدنا الصراط المستقيم } (2 ) ولما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يقصر في فعل المأمور ، أو اجتناب المحظور ، وهذا خروج عن الاستقامة ، أرشده الشرع إلى ما يعيده لطريق الاستقامة ، فقال تعالى مشيراً إلى ذلك : { فاستقيموا إليه واستغفروه } الآية (3 ) ، فأشار إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها ، وأن ذلك التقصير يجبر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة.
وقل صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) (4 ).
مقامات الدين التي يطالب بها العبد
قال صلى الله عليه وسلم: ( سددوا وقاربوا ) (5 ) ، فالسداد : الوصول إلى حقيقة الاستقامة ، أو هو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد.
وقوله : ( قاربوا ) أي: اجتهدوا في الوصول إلى السداد ، فإن اجتهدتم ولم تصيبوا فلا يفوتكم القرب منه.
فهما مرتبتان يطالب العبد بهما : السداد ، وهي الاستقامة ، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة ، وما سواهما تفريط وإضافة ، والمؤمن ينبغي عليه أن لا يفارق هاتين المرتبتين ، وليجتهد في الوصول إلى أعلاهما ، كالذي يرمي غرضاً يجتهد في إصابته ، أو القرب منه حتى يصيبه (6 ).
أهميتها
مما يدل على أهميتها أمور ، منها:
1ـ أنها في حقيقتها تحقيق للعبودية التي هي الغاية من خلق الإنس والجن ، وبها يحصل للمرء الفوز والفلاح.
2ـ أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتحقيقها ، وكذلك كل من كان معه ، فقال: { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } الآية (7 ) ، وقال: { فلذلك فأدع واستقم كما أمرت ..} الآية (8 ) ، وغير ذلك بها.
بل قد أمر الله تعالى بها أيضاً أنبياءه ، فقال ، في حق موسى وأخيه عليهما السلام : { قد أجيبت دعوتكما فاستقيما .. } الآية (9 )
3ـ ومما يدل على أهميتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه سفيان بن عبد الله الثقفي ـ رضي الله عنه ـ يقول له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل آمنت بالله ، فاستقم ) (10 )
من أسباب الاستقامة ووسائل الثبات عليها
1ـ من أهم أسباب الاستقامة إرادة الله لهذا العبد الهداية ، وشرح صدره للإسلام ، وتوفيقه للطاعة والعمل الصالح ، قال تعالى: { قد جاءكم من الله نور وكتابٌ مبين (15 ) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم } (11 )
2ـ الإخلاص لله تعالى ، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين .. } الآية (12 ).
3ـ الاستغفار والتوبة.
وقد علق الله تعالى الفلاح والنجاح بالتوبة ، فقال تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} (13 )
4ـ محاسبة النفس:
قال تعالى:{ يأيها الذين آمنوا أتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ وأتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (14 )
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم. اهـ (15 ).
فالمحاسبة تحفظ المسلم من الميل عن طريق الاستقامة.
5ـ المحافظة على الصلوات الخمس مع الجماعة:
لأنها صلة بين العبد وربه ، وهي من عوامل ترك الفحشاء والمنكر ، قال تعالى: { إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر }الآية (16 )
6ـ طلب العلم: والمقصود به علم الكتاب والسنة ، لأنه الوسيلة لمعرفة الله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
7ـ اختيار الصحبة الصالحة : لأن الجليس الصالح يعين صاحبه على الطاعة وعلى طلب العلم ، وينهيه على أخطائه ، أما الجليس السيء فعلى العكس من ذلك تماماً ، قال تعالى: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } (17 )
8ـ حفظ الجوارح عن المحرمات: وأهمها: اللسان فيحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة وغيرها، ويحفظ بصره عن المحرمات ، وليكن نصب عينيه قوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } (18 ).
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) (19 ).
9ـ معرفة خطوات الشيطان للحذر منها:
قال تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} (20 )
من ثمرات الاستقامة
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30 ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }
من هذه الآية وغيرها نستنتج بعضاً من ثمرات الاستقامة:
1ـ طمأنينة القلب بدوام الصلة بالله عز وجل.
2ـ أن الاستقامة تعصم صاحبها ـ بإذن الله عز وجل ـ من الوقوع في المعاصي والزلل وسفاسف الأمور والتكاسل عن الطاعات.
3ـ تنزل الملائكة عليهم عند الموت ، وقيل: عند خروجهم من قبورهم ، قائلين : { ألا تخافوا ولا تحزنوا} على ما قدمتم عليه من أمور الآخرة ، ولا ما تركتم من أمور الدنيا من مال وولد وأهل.
4ـ حب الناس واحترامهم وتقديرهم للمسلم ، سواء كان صغيراً أو كبيراً على ما يظهر عليه من حرص على الطاعة ، والخلق الفاضل.
5ـ وعد الله المتقين أن لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم ، وتلذ أعينهم ، وتطلبه ألسنتهم ، ‘حساناً من الله تعالى.
—————————
(1 ) جامع العلوم والحكم ، شرح الحديث الحادي والعشرين.
(2 ) آية : 6 من سورة الفاتحة.
(3 ) آية : 6 من سورة فصلت.
(4 ) رواه أحمد 5/153، 158 ، والترمذي ، كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في معاشرة الناس 4/312، رقم (1987 ) ، وقال: حسن صحيح ، والحاكم 1/54، وقال : صحيح على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وأنظر جامع العلوم والحكم ، حديث رقم (18 ).
(5 ) رواه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب القصد 11/294 ، ح (6463 ، 6464 ) ، ومسلم ، كتاب صفات المنافقين ، باب : لن يدخل أحد الجنة بعمله 4/2171 ح (2817 ).
(6 ) أنظر: جامع العلوم والحكم ، حديث (21 ) ، ومدارج السالكين لابن القيم ، منزل الاستقامة ، وشرح النووي على مسلم ( الحديث السابق ).
(7 ) آية 15 من سورة الشورى.
(8 ) آية 112 من سورة هود.
(9 ) آية 89 من سورة يونس.
(10 ) رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب جامع أوصاف الإسلام 1/65 رقم (38 ) ، وهذا لفظه في النسخة المطبوعة ، وإن كان اللفظ المشهور: ( ثم استقم ) ، وعليه شرح النووي وغيره ، والله أعلم.
(11 ) آية 15 ، 16 من سورة المائدة
(12 ) آية 5 من سورة البينة
(13 ) آية 31 من سورة النور.
(14 ) آية 18 من سورة الحشر
(15 ) أنظر تفسير ابن كثير جـ4 ص 342.
(16 ) آية 45 من سورة العنكبوت.
(17 ) آية 67 من سورة الزخرف.
(18 ) آية 36 من سورة الإسراء.
(19 ) متفق عليه ، صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان 1/308، ح (6475 ) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار 1/68 ، ح (47 ، 48 )..
(20 ) آية 21 من سورة النور.
(21 ) الآيات 30 ـ 32 من سورة فصلت