يوسف الإدريسي
تلك إذن هي الانتهازية الذميمة التي تتاجر بمعاناة اليوسفيين، ويتمثل تسلّط هذه الكائنات الاستثنائية في زمن الاستبداد والاستبلاد كونها تشارك في دعم الطبقة العينية، بالمقابل تجهز على بنية السواد الأعظم من المستضعفين، وكونها أيضا لم تحمل مشروعا بعيد الأمد من شأنه خلق قطيعة مع الحيف والقهر والاستغلال الطبقي.
والمؤسف فعلا أن نجد بعضا ممّن يُفترض فيهم الدفاع عن هوية مدينتنا الانحناء أمام أصوات أولئك الذين يعيشون تحت وطأة التهميش والإهمال، ثم يلجِؤون غير عابئين بذلك إلى أسلوب التطبيل والتزمير لدى أصحاب القرار، الذي يروم تلميع الوضع المأساوي عبر قنوات حزبية وحقوقية وجمعوية في محاولة للتمويه على الرأي العام المحلي من خلال أنشطة تؤصّل بشكل نظري للفعل التنموي الهادف والعمل المجتمعي الفاعل، إضافة إلى إخراج سيناريوهات من نوع خاص لملتقيات تراثية ومهرجانات فنية وأنشطة طفولية ترمي إلى تنميق المشهد العام.
ونتيجة لذلك اختلطت الأمور على اليوسفيين أسودها مع أبيضهـا وأصبح بذلك لون المظهر العام للمدينة رمادياً أقرب منه إلى الظلام، فقدوا هويتهم الانتمائية... لايعرفون مـن هم ...و إلى من ينتمون...، إذ أضحت المدينة في نظر بعضهم مجرد رقم في المعادلة الاقتصادية و إنعاش الناتج الوطني، وأمست في نظر نخبتها التي تشكل طليعتها مجرد ضيعة للنهب والسرقة و تبييض الأموال. مدينة ذُبحت ولا زالت تُذبح من الوريد إلى الوريد، بالرغم من أن صيحاتها وصيحات بؤسائها مدوّية، لم تصل هذه الآهات إلى من يهمهم الأمر إن وّجدوا طبعا، وكأنهم يصرخون في وسادة لا يسمع صيحاتهم إلا هم، لم تمتد إليهم يد الرحمة كما امتدت لمدن أخرى، والسبب كما يعرفه الخاص والعام لن يكون بعيدا عن صانعي القرار فيها سواء كانوا على رأس السلطة أو في أدناها والذي يبدو أنهم استساغوا الوضع القائم واستأنسوا بالظرف الراهن في محاولة لتدمير معالم المدينة والإجهاز على ملامح ذاكرتها.
وإذا كان المال في الغالب هو الذي يوصل إلى السلطة فإن السلطة بمدينتنا هي التي توصل إلى المال، ولأن الساحة التدافعية بالمدينة تخلو من القامات الشامخة والأوتاد الراسخة، فلا تكاد تمر شهور قليلة دون أن تطفو على الساحة المحلية فضيحة نهب أو اختلاس لأموال عمومية أو شطط في استعمال السلطة أو ابتزاز مصلحي من نوع خاص، وهذا كما يعلم الجميع يجسد انتهازية ممنهجة دمّرت وتدمّر بشكل أو بآخر مجتمعات في طور البناء، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتطلّع إلى واقع الرّقي والنمو والازدهار في ظل عبثية مقيتة للمال العام تعرقل السير نحو الأهداف والانتظارات. والأخطر ليس في حجم الضرر الناجم عن النفعية الذاتية ولا في نوعية أسماء المتورطين فيها، بل في كون هذه الفضائح أضحت اعتيادية و كأنها الأصل، فحينما يصبح المواطن متكيفا و متأقلما مع هذه الوضعية الشاذة، وقتئذ نساهم بشكل أو بآخر في الإجهاز على الإرادات ومن ثم يغيب التدافع العملي المشروع ويكون الاستسلام للأمر الواقع.
بالرغم من أن حملات الأيادي الكاسرة في الاختلاس ونهب المال العام تكون محاطة بسرية تامة و تكتّم شديد، غير أن تداخل الحساسيات السياسية وتصفية الحسابات بين الأطراف النافذة في السلطة وتضارب مصالحها، بمقدوره كشف جزء من المستور والمسكوت عنه، لأنه من دون أن يختلف السراق لن يظهر أبدا المال المسروق. لكن هذا لا يمنع الفعاليات الحقوقية والجمعوية والإعلامية من ممارسة دورها في الرقابة المشروعة وحماية المال العام من الكائنات الانتهازية، كون الرقابة تلعب دوراً هاماً وفاعلاً على العمل التسييري والتدبيري، كما تساعد على خلق الوعي السياسي داخل المجتمع، فيما ينبغي أن يكون دور الإعلام المحلي دوراً توجيهيا ورقابياً ويجب أن يحظى بدعم وإسناد مكونات المجتمع المدني بدل التضييق ومحاولة تكميم الأفواه، بالمقابل يستوجب عليه أن يتحلّى بالمهنية والتوجه إلى خدمة المواطن وليس خدمة النخبة أو قضاء المآرب الشخصية على شاكلة الطابور الخامس.