محمد لبيض
لن أنسى اليوم الذي اتصل بي فيه ذلك الرجل المكلوم، الذي فقد ابنت أخته، التي كانت في زيارته لأمريكا، وبالضبط في بوسطن، لتلبي نداء ربها وهي طفلة العشر سنوات! كان الرجل، الذي هو خال الطفلة المتوفاة، حائرا ومغلوبا على أمره، فبين فقدان طفلة في المهجر والاغتراب، ورغبة أسرتها، التي تنتظرها في المغرب، على الأقل لتلقي النظرة الأخيرة على وجهها البريء، كان الرجل مشتت البال وضاع بين السبل!
لكن واقعنا في المهجر لا يرحم! فقد اتصل الخال بإحدى الجهات المحسوبة على الجمعيات الإسلامية، أقصد مشرفين علي مسجد، لكي يساعدوه على ترحيل الجثمان إلي المغرب ليكتشف وجه جلادين يتاجرون في الأموات، مثلما يفعلون في الأحياء!!!
لقد طالبوه بأداء مبلغ يفوق السبعة آلاف دولار (حوالي ستة ملاين ونصف من الستنيمات!) وحين لاحظوا أن الرجل عاجز على دفع هذا المبلغ، طلبوا منه أن يؤدي مبلغ خمسمائة دولار، من أجل ”تغسيلها“!!
ذكرتني هذه الواقعة بعدد لا حصر له من الوقائع التي حدثت ، وماتزال، داخل واقعنا في المهجرالأمريكي. حيث يشكل بعض الأشخاص المشرفين على بعض المؤسسات الدينية/المساجد، والجمعيات الإسلامية، رموزا لمصاصي الدماء وتجار ”صكوك الغفران“. إذ صار لدينا أشخاص لهم احترافية عالية في ”جمع الأموال“ للإحسان، وخاصة في شهر رمضان، إلي درجة أن الواقع الأمريكي يشهد على تشرذم، وبلقنة، استثنائية بين المساجد والجمعيات الإسلامية، إلي الحد الذي يدفع البعض إلى الإعلان عن بداية شهر رمضان دون الآخرين، حتى يستفرد بليلة القدر“ ويتجنب منافسة الآخرين“ له، كي يجمع ”الصدقات والزكاة“، بحيث إن الزائر للمساجد الإسلامية في ليلة القدر، في أمريكا، يصاب بدهشة أمام المشاهد التي تحدث أمامه. إذ هناك أشخاصا يحترفون تنشيط عملية ”جمع الأموال“ بصورة تخلو من أدني معايير الحشمة والوقار والاحترام. بل إنهم يحثون الناس على التبرع عن طريق ”بطائق الائتمان = Credit Card“ في الوقت الذي يصمون فيه آذان الناس بتحريم الربا والمعاملات البنكية المحرمة! وهو ما يجلي بوضوح التهافت الغريب لدى هؤلاء في جمع المال بأي وجه. فمرة يطلقون حملات جمع ”الصدقات“ أو بالأحري ”الاكتتاب“، طمعا في الحسنات، باسم حفر بئر في المغرب، ومرة من أجل بناء “بيت الله“، ومرة من أجل توسيع بيت الله، ومرة من أجل إنجاح عملية اندماج بين مسجدين أو جمعيتين!
وإذا كان بناء مسجد، يعتبر ضرورة، وينبغي أن نساهم فيه، وأن نساهم في إنجازه، نظرا لأهميته وضرورته داخل واقعنا المسكون بالاغتراب، فإن ذلك لا يعني تحويل ”بيت الله“ أو ”الحسنات“ إلي ”صكوك غفران“ تدر على ممتهنيها دخلا، وتصبح مهنة ووظيفة، تؤثر سلبا على صورتنا كمسلمين، من جهة، ومستنزفة للموارد الضئيلة، والتي تزداد ضعفا مع تكاثر الجهات التي تحلم كلها بإقامة بيت لله!
كما أنه، إذا كان من الضروري جمع ”التبرعات والصدقات“ من أجل التغلب على مصاريف تسيير بعض المساجد، فإن هذا لا يمكنه أن يبرر ”تغسيل ميت“ بخمسمائة دولار! كما لا يبرر الاتجار في الموتى الذين توفاهم الله في بلاد الغربة!
غير أنه، كما قال الله تعالى، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، فقد كان للحادثة التي ذكرت في البداية، دورا في تحفيزي على الاتصال بالجهات الوصية، سواء المصالح القنصلية المغربية أو المصالح التي تشرف عليها وزارة الهجرة، أو المؤسسات الأمريكية التي لها صلة بالدفن وترحيل الجثامين، فوقفت بالملموس على ما يمكن لوزارة الهجرة أن تفعله في هذا الصدد، أي إنها تتكفل بكافة المصاريف والإجراءات وتشرف علي عملية الترحيل حتى وصول الجثمان إلى أرض الوطن!
وقد ارتأيت أن أتقاسم مع كل إخواننا في المهجر، أطال الله عمرهم وعمر ذويهم، بأن أحيطهم علما أن وزارة الهجرة المغربية تساعد كل شخص معوز من أجل ترحيل جثمان مغربي مقيم في المهجر، كما أن القوانين الأميركية، والمؤسسات المشرفة على قطاع ”دفن الموتى“ لا تشترط المرور بأي جهة، سواء دينية أو غير دينية، وأن من حق أي شخص أن يتكفل بدفن قريبه، داخل أمريكا، ومن حقه أن يتكفل بترحيل جثمان إلى أرض الوطن بنصف المبالغ التي يطالب بها بعض ”تجار صكوك الغفران“.