يوسف يعكـوبي
أثار العدوان الإسرائيلي الثالث على قطاع غزة (يوليوز 2014) موجةً عارمة من التساؤلات والشكوك داخل الأوساط الصهيونية حول حقيقةِ قوة الرَّدْع لدى "إسرائيل"؛ قوةٌ كانت توصفُ إلى وقتٍ قريب بـ "القوة التي لا تُــقهر"، ذلك أن "إسرائيل" - وكما هو معلوم- هي جيشٌ له دولة، وليست دولة لها جيش !
وإذا كان صمود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة واستبسالَها في ميدان المعركة لـيُعدّ من أهم العوامل المُساهِمة في إثارة زوابع تلك الأسئلة وانتشارها السريع داخل الأوساط الإسرائيلية في الآونة الأخيرة؛ فإن تلك الشكوك ليست وليدةَ اليوم، بل إن الجميع يتذكر الأثر البالغ الذي خَلَّفه العدوان الصهيوني على غزة سنة 2008، ومِن قبلِه العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006، على المستقبل السياسي لرئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك "أولمرت"؛ حيث إنَّ الفشل العسكري الذريع في تحقيق الأهداف المُعلنة من العدوانيْن أدى بـ"أولمرت" إلى دفع ثمنٍ باهظٍ لم يكن غيرَ تقديم الاستقالة من رئاسة الحكومة والانسحاب الهادئ من حلبة التنافس السياسي.
بذلك تكادُ تكون "إسرائيل" الدولة الوحيدة في العالَم التي يُعتبر قرارُها ومُستقبَلها السياسي مَرهوناً بأداء جيشها على الميدان العسكري. كما أن أيَّ قرار عسكري إسرائيلي لا بد وأن تكون وراءَه خَلفيات سياسية أو تَوافُقات حكومية؛ وبالتالي فإن العلاقة بين السلطة السياسية الحاكِمة (الحكومة) والسلطة العسكرية (الجيش) في الكيان الصهيوني هي علاقة حَميمية وجَدَلِية، قوامُها التأثير والتأثر والتداخل الوظيفي إلى درجة التماهي التام بين الطرفين؛ فلا يمكن تَصوُّرُ أيِّ فشلٍ أو إخفاق إسرائيلي على الصعيد العسكري دون أن تكون له انعكاسات قوية وتداعيات كثيفة على الصعيد السياسي.
والمُتتبعُ لتصريحات كبار الخبراء والمسؤولين السياسيين والعسكريين، وحتى الإعلاميين الإسرائيليين خلال الأيام الأخيرة لعملية "الجُرف الصامد" على قطاع غزة، يلحظُ دون أدنى عناء مدى الاستِــياء الرسمي والسُّخط الشعبي في "إسرائيل" من الأداء العسكري الفاشل لجيش الاحتلال الصهيوني في مواجهة المقاومة الفلسطينية في غزة المُحاصَرة منذ ثمان سنوات. ولذلك فليس مِن العَجَب أن يكون الرئيس (الحالي) للحكومة الإسرائيلية "نتنياهو" كبشَ الفِداء لهذه الجولة من الصراع العربي-الإسرائيلي.
وإذا كان النجاح أو الفشل في أي مواجهة عسكرية يُقاسُ بحجم الخسائر البشرية والمادية، وأعداد الضحايا المَدَنيين، فإن "إسرائيل" ستكون قد انتصرت انتصاراً مُبيناً وحققت نجاحاً باهراً في معركة 2014، حتى وإنْ كان "انتصاراً" على أشلاء الأبرياء وجثث الأطفال والنساء. لكن، إذا كان مقياس النجاح أو الفشل هو مدى تحقيق الأهداف المُعلَـنَة للحرب، فإن المقاومة الفلسطينية في غـزة - بكل فصائلها - ستكون قد دَوَّنَت اسمَها بمِدادٍ من ذهب في سِجِلِّ الانتصارات الإستراتيجية.
والواقعُ أن منطقَ الحروب المعاصِرة لم يَعُد مُعترِفاً بحجم الخسائر وأعداد الضحايا كـمِعيارٍ حاسم لتحديد المُنتصر في أيِّ نزاع مُسلح؛ ذلك أنه ليس خاضعاً للسُّلطة الكَمِّية للأرقام، بل أصبحت نوعية العمليات المُنجَزة وكيفية إدارة المعركة على ساحة القتال من أهم العوامل الحاسمة في تقرير نتيجة أيِّ صراع عسكري. ومِن ثَمَّة يمكن القول أن صمود الشعب الفلسطيني (خاصة في غزة) وثبات المقاومة في الميدان العسكري ثم فرضِها لشروطها على المستوى السياسي، تُعتبرُ ثلاث ضماناتٍ لتحقيق أيِّ نصر استراتيجي على الاحتلال الإسرائيلي سواءٌ في هذه المعركة أو في القادم من جَوَلات الصراع مع بني صهيون.
نحن إذن أمام انتصار تاريخي يُحسب لفائدة المقاومة الفلسطينية؛ انتصارٌ يكاد يكون نقطة الضوء الوحيدة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي والذي خَيَّمَ عليه السَّواد والانتكاس والتراجع والانبطاح العربي.. كما أن عدوان غزة 2014 سيكون لحظة فارِقة ومُنعَطَفاً تـاريخياً في مسار ثورات «الربيع العربي» والذي أراد البعضُ التَّحايُل عليه وتحويلَه إلى "خريف"، قَصْدَ سرقة ثِمارِه عن طريق تهييج رياح الفتنة الهوجاء لإثارة الثورات المُـضـادة والانقلاب على مُكتسبات الشعوب..
ومما ينبغي قولُه في هذا الصدد، أنّ الكيان الصهيوني وبعد إخفاقِه الكبير في تحقيق الأهداف المعلَـنة لعملية "الجُرف الصامد" -وفي مُقدمتها القضاء على الأنفاق في غزة وإعادة الهدوء للمُستوطنين الصهاينة في جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة- سوف يكون بذلك قد وَضَعَ قَدَمَهُ الأولى وخَطَى أوَّل خُطوة على مشوار الانهيار والسقوط والزوال التام بإذن الله تعالى؛ وبالتالي فإن انهزام "إسرائيل" وانكسارَها عسكرياً وسياسياً على تُخـوم قطاع غزة.. ما هــو إلا بـدايــةُ الــنهــايـــة !!!