عبد الحق الرحيوي
شكل القرن 18 م مرحلة مفصلية في تاريخ الفكر الأوروبي، حيث سيشهد اكتمال المفاهيم المؤسسة الحداثة ونقصد مفهوم التقدم، الذي أسس لقطيعة مع الماضي، ومع تصوراته التقليدية المتعلقة بالزمن، والإنسان، والإله.
لقد كرس دين تصورا سلبيا لتاريخ الانسان في الحاضر والمستقبل فهو مدنس بالخطيئة والخطأ، ولا أمل يمكن استشرافه في المستقبل، وهذا عيب فكري في نظري الحداثة، التي عملت على إرساء تصور جديد يجعل من الحاضر أفضل من الماضي والمستقبل أفضل من الحاضر، والسبب هو أن العقل البشري في تطور مستمر، بمعنى أن الطبيعة الانسانية تسير نحو التقدم.
لقد كان هذا التصور المتعلق بالتقدم بمثابة حلم لم يصمد أكثر من قرن ونصف، فسرعان ما استفاق الحالمون على ايقاعات حرب مدوية، اجتثت آخر الأحلام الوردية المتعلقة بالسلام والتقدم،والحرية...الخ، لذلك كل من عاصر الحرب العالمية، لم يكن يتوقع أنه بالإمكان أن يحدث شيء فضيع سنة 1914 م، فالكل كان يعتقد أن الحروب في طريقها للاختفاء من حياة الأمم المتحضرة "الأروبية"، وأن هذه المجتمعات سوف تتخلى عن هذا العبث المدمر في ظل عالم عقلاني منظم دوليا. لكن بمجرد ما بزع فجر سنة 1914م حتى شهد العالم تغيرا جذريا، ثورات في كل مكان، فوضى عارمة، تغير في الخريطة السياسة، العودة الى تبني أشد أنواع الديكتاتوريات، دول توليتارية تبتلع جيرانها، مؤسسة لثيوقراطيات جديدة...اضطهاد اليهود والمسيحين،..الخ.
إن منطق الحرب يؤسس لعنف مادي مدمر هذا ما شهده العالم، والكل اعتقد أن هزيمة ألمانيا في الحرب ومعاهدة فيرساي ممكن أن تشكل نهاية أي شكل من أشكال الحروب الكبيرة وغير المتوقعة، وأن مسلسل العقلانية والكونية مستمر، وربما تكون الحرب الأولى مجرد حدث عرضي يمكن أن تتخلص منه الذاكرة الأوروبية، لكن سرعان ما تشكل في أفق الفكر العقلاني، فكر عدمي، يؤمن بشيء قديم جديد وهو العرق. إن تأسيس دولة على أسس عرقية هو طموح هلتر، لم يرفع هتلر شعار الحرية أو التقدم أو الديموقراطية في مشروعه الحكومي، بل فقط أعاد النبش في الذاكرة الألمانية، مخاطبا قلوب الألمان المؤمنة بنقاء الدم وتفوق الجنس الآري على باقي الأمم.
قد لا يبدو غريبا ما فعله هتلر وما حدث في ألمانيا، لأن التاريخ الإنسانية هو تاريخ الهمجية والحرب، لكن سيبدو كذلك إذا عرفنا أن العقلانية رغم جذورها الديكارتية، فإنها مشروع ألماني، وأنا سؤال الحداثة كان ألمانيا كذلك، بل أكثر من ذلك فالمشروع الاشتراكي بقيمه الانسانية المناهضة لكافة أشكال امبريالية اللإنسانية، كان ماركسيا ألمانيا. لكن لم ينجح الاشتراكيون في اقناع الشعب الألماني، بقيم العدالة الاجتماعية والمساواة، التحرر من البنية الفوقية،..الخ.
إن فشل الفكر الاشتراكي يطرح أكثر من سؤال على المستوى السيكولوجي للجماهير، فالعمال الذين اعتبرهم ماركس قوة التي يمكن أن تؤسس للدولة الاشتراكية، صوتت بكل اندفاع لهتلر لم تكترث بالشعارات الماركسية، وهذا يعكس الطابع الانفعالي للجماهير فهي منقادة ومؤمنة أكثر مما هي مفكرة، هذا الاندفاع لم يكن فقط خاصية العامة وإنما العديد من الأقلام المفكرة سخرت قدرتها اللغوية للدفاع عن النازية.
النازية كارثة فكرية ووقاحة إنسانية تكشف حقيقة تاريخية كما سماها هوبز، تتمثل في تلك الحنين الى الأصل، الحنين الى الإنسان المتوحش، محاولة الهروب من قيم العقل والعقلانية، من مفاهيم السلام والإخاء، هذا الحنين الى الأصل المتوحش لا يمكن أن يقود سوى الى كارثة كان أبطالها جنود يقتلون أي شيء صادفوه في الطريق سواء بشر أو حجر، لم يكن في نظرهم فعل القتل شيء غير محمود، بل شكل القتل وظيفة سامية، ينبغي أن نخلص العالم من اليهود، من المسيحين غير آريين... ينبغي أن يحكم العالم من دمه طاهر ونقي، من ينتمي الى العرق الآري، من أجل هذا الحلم كان يشتغل الجنود الألمان مثل آلات للقتل، قتل ما تبقى من الأفكار، ذلك من خلال قتل كل من يحمل فكرة ضد النازية، لقد شكلت الحرب العالمية مرآة رأى فيها العالم أسطورة التقدم وهي تنكسر. فالحرب تجسيد للعدمية الفكرية، تجسيد للتيهان، اعلان عن موت ما تبقى من القيم والأخلاق، انكسار وانهيار، ودمار وقتلى،...الخ.
فالنازية رغم تجسيدها لأخلاق السادة كما بلورها نيتشه في كتاباته، إلا أنها كذلك تعكس تلك العدمية التي تنبأ نيتشه حدوثها، ويمكن أن نضيف للعدمية دلالات أخرى، وذلك عندما نرى في العدمية غياب للفكر المتعدد، وغياب الايمان بالاختلاف، وانسحاب للمثقفين. ربما أكثر الأسئلة التي يمكن طرحها في سياق الحرب العالمية لماذا لم يستطيع المثقفون والفلاسفة الوقوف في وجه الكارثة ؟ هل سيكتفي المثقف بكونه محللا للحرب ؟ عندما حدثت الحرب أين كان الفكر الأروبي ومفكريه ؟. هل من المعقول أن يحدث فعلا لا عقلانيا في زمن العقل ؟.
هذه الأسئلة ذاتها تلقي بظلالها على الوضع العربي الآن، وينبغي التفكير فيها جديا، لكون الأمر لا يتعلق بحركة "داعش" تشتغل دباباتها بعيدا عنا، وإنما كون ما هو أخطر من داعش كحركة وإنما كفكر، فربما اذا حللنا الوعي الجمعي للمجتمعات العربية، فإننا ربما سنجد "داعشي" في كل متر مربع، بمعنى هناك الآلاف من الناس يحملون أفكار داعش، وحالمون بدولتها الشرعية، في زمن أصبح الحديث فيه عن الدولة الدينية بمثابة أسطورة شخصية، وليس أسطورة جماعية، يمكن العيش داخلها في سلام.
هذه المسألة ينبغي الاهتمام بها كما ينبغي التفكير فيها، لأن حركة داعش تكشف اليوم عن الوجه المريض للثقافة العربية، فنحن لن نذهب بعيدا في كون حركة داعش مخطط يهودي أو أمريكي، ولكن ينبغي التفكير في كيف يقتنع الأشخاص بسهولة بمشروع داعش ينزجون كالغراب الأسود نحو الشرق، مستعدون للموت من اجل فكرة لا تاريخية ؟. ما الذي يجعل من فعل القتل حدث يومي عادي في بلاد الرافدين ؟. كيف تحولت بلاد العلم والأدب الى مقبرة كبيرة يدفن فيها ما تبقى من أرث الحضارة العربية؟.
لطالما اعتبرت ألمانيا بلد الكوارث الروحية، رغم أن الفكر الألماني هو من دشن تلك الحرب على الكنسية، فالكل يعرف أن ألمانيا هي مهد البروتستانية كمذهب مسيحي جديد بقيادة لوثر، إلا أن البروتساتنية لم تبرأ اليهود من دم عيسى، لذلك قامت بإبادة اليهود. وما يقال على ألمانيا يقال على العراق كذلك التي عرفت انطلاقة الأولى للحرب التي ستصبح التقليدية اليوم، وذلك بعد مقتل الحسين في حادثة كربلاء، حيث سيصبح السنة المتهمون من طرف الشيعة في مقتل حسين وستبدأ الحرب التي لن تنتهي، حرب تبيح دم السني ودم الشيعي كذلك رغم أن الله عز وجل حرم دم المسلم، لكن عندما يغلف العقل بأفكار العقيدة، يصبح المعتنق لهذه الأفكار مثل حيوان مدجن يقتل النساء والرجال الأطفال والشيوخ معتقدا أن الجنة مكتوبة على أبوب قبره، لكن يمكن القول أن هذه همجية جديدة جاهلية فتاكة، ينبغي على العالم أن يجند كل أسلحته الفكرية والمادية لوقف هذا النزيف الذي ينخرف الثقافة والجسد العربي.
إن حركة داعش اليوم في سعيها لتأسيس الدولة الإسلامية لا تميز بين الحجر والإنسان، تبيد كل شيء في طريق، تحاول بقوة السلاح ومبدأ الاعدام، زرع أفكارها اللاعقلانية، فالدين الاسلامي تحدث عن الحرب ووضع أدبيات للحرب، من بيها احترام الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال، وكذلك الحفاظ على حياة الأسرى،و للحرب الآن الكثير من القوانين، رغم أن الحرب في الأصل لا يمكن أن تكون شي معقولا حتى نضع له أدبيات، لكن المنطق العدواني الذي يحكم الإنسان وحنينه الى الأصل يجعل من الحرب مسألة يومية.
اذا ما نظرنا بوجهة نظر تاريخية سنجد ان داعش تشبه الى حد ما الحركة النازية، فهي حركة غير مؤمنة بالقيم الانسانية والكونية والاختلاف، حركة حاملة لفكر مدمر وقدرتها على التدمير جعل من تدميرها مسألة سهلة كذلك، فسرعان ما اكتشف النازيون أن ما كان يقود إليه هتلر الشعب ألماني هي مذبحة كبيرة، فالنازية هنا شكل من أشكال اللامعقولية على المستوى السياسي، هذه اللامعقولية تشترك فيها حركة داعش، كونها ترفع شعارات تقليدية، فمثلا يركب الداعشي سيارات الفورد أمريكية ويحمل سلاح كلاشينكوف الروسي لكن يصر على ضرورة عدم تدريس الدواعش الصغار، الفلسفة والفزياء كونها لا تعتمد على الله، وذلك من أجل تعليمهم الفقه والسنة وعلوم الحديث وكأن سيارته وسلاحه ليس انتاجا فزيائيا، لا يقوم على مبدأ الكتلة والسرعة والطاقة.
بين داعش والنازية نقط تقاطع كثيرة فالألمان يفتخرون بعرقهم، ويعتقدون أن مسألة تخليص العالم من الشرور إلا من شرهم، مسألة مرهونة بيدهم النقية، كذلك يعتبر أهل داعش أنهم المهدي المنتظر، لقد طالما اعتقدنا أنهم ربما سيأتي مهديا واحدا أو مسيحا واحد، لكي يجدد الدين الاسلامي، لكن استفقنا على مهديون منتظرون ولا ندري من أين آتاهم الهدى. فعندما يعتقد شخص ما أو جماعة على أنها الوحيدة من على حق، بينما ما تبقى من البشر فهو جاهل وجب تخليص الأرض منه، بدل تخليص الجهل منه، نكون أمام كارثة فكرية سوف تقود الى حرب دموية، خصوصا أن أهل الفكر المنغلق "دواعش" لا يعرفون كيف يشرحون أفكارهم ومشاريعهم إلا اذا كانت أيدهم محملة بالرصاص، وهذا ما حدث فالنازيون والآن دواعش يخلصون الأرض من الجهلة بدل تخليص الانسان من الجهل، هذا إذا جازفنا أن يكون القاتل بريئا وعالما، مع علم أن القاتل دائما مدانا.
ينبغي إذن على كل الدول والمفكرين العرب، تسخير قدراتهم الفكرية والمادية من أجل الدفاع عن ما تبقى من الفكر الانساني، الذي كنا نعتقد أننا وصلنا إليه بعد أحداث الربيع العربي، لا ينبغي أن نترك هذه النازية الجديدة أن تقودنا الى حرب كبيرة نخرب فيها بيتنا العربي. إن ما تقوم به داعش اليوم يؤكد تلك الفكرة المسيطرة على عقلية الأوروبي، الذي يرى في المسلم ذلك الرجل المتطرف والخطر القادم المهدد لحضارة الاختلاف، بالإضافة الى ذلك فإن حركة داعش تشويه ما تبقى من الإسلام، بعد أن شوهته المذاهب الدينية، ومساجد السياسوية. بهذا نكون قد وجهنا رسالة مباشرة الى أهل داعش، فنحن ندين كل ما اقترفت يداهم، فإذا كانوا يبررون كل هذا الشر من أجل الخير الأكبر المتمثل في تأسيس الدولة الاسلامية، فنحن نقول لهم تأسيس الدولة الاسلامية يبقى حلما مشروع من حقكم الدفاع عنه، لكن ليس على حساب الأقليات، وعلى حساب حق الانسان في الحياة، كما أن الدولة الاسلامية تحتاج الى مفكرين وعلماء، وليس رجال يحملون أسلحة يدمرون ما تبقى من ذكريات الأجداد، ويبدون حلم الأحفاذ في بناء دولة عربية تستجيب للكرامة الإنسانية.
m a
Fair
Excellent article. Thanx