رشيد باجي
تأسست الإدارة العمومية الحديثة على أساس خدمة المواطن كفرد وذلك بتحقيق متطلباته وتطلعاته وضمان حقوقه ومساعدته على القيام بواجباته، وانصافه إذا ظُلم ومعاقبته إذا ظَلم، وكذا خدمة المجتمع وذلك بضمان التوازن والتلاحم الاجتماعي وتحقيق التوزيع العادل للموارد بين المجموعات الأكثر فقرا من أجل مجتمع عادل ومندمج بشكل جيد. إلا أنه عند حديثنا عن الإدارة المغربية، يطرح التساؤل التالي، هل حافظت هاته الإدارة على المبدأ الذي تأسست عليه ؟ الجواب على هذا السؤال يستوجب تشخيص واقع المرافق العامة بالمغرب وفحص طرق تدبيرها وتسييرها.
اتسمت الإدارة المغربية بُعيدالاستقلالبالتعقيد، إذ مزجت بين نظام الإدارة العتيق الذي شكل لعدة قرون الدراع التنظيمي لمؤسسة المخزن وبين البيروقراطية المستمدة من النظام الفرنسي، وقد أفرز هذا الواقع هياكل ومؤسسات يشرف عليها ويديرها مجموعة من كبار الموظفين الحريصين على استمرارها على شكلها السائد، وذلك لارتباطها بمصالحهم الشخصية أو مصالح ذوي النفوذ، وقد وصل بهم الأمر إلى تشكيل لوبيات إدارية يصعب زعزعتها، وقد حدث أن عجز وزراء في حكومات سابقة على تغيير الكتاب العاميين لوزاراتهم. كما انتشرت ظاهرة الرشوة باعتبارها عملية للإتجار في الخدمة التي يقدمها المرفق العمومي والتي هي في الأصل بدون مقابل، وبالتالي فقد تم المساس بمبدأ المجانية، إلا أن الغريب في الأمر أن هذه الممارسة أصبحت تجد لها شرعية داخل فئات عريضة من المجتمع باعتبارها اقتصادا موازيا يساهم في تسهيل التعامل مع الإدارة وتجاوز رتابة وتعقد مساطرها.
ومن أجل إصلاح الإدارة، شكل المغرب سنة 1981 لجنة وطنية للإصلاح الإداري، إذ فحصت المشاكل التي تواجه الإدارة، وأصدرت مجموعة من التوصيات إلا أن غالبيتها تمحورت حول المشاكل القانونية، كمراجعة القانون الأساسي للوظيفة العمومية وإصلاح الهياكل الإدارية. وجاء تقرير البنك الدولي لسنة 1995 صادما لواقع الإدارة المغربية ودعا إلى إصلاحات مستعجلة، معتبرا أن طرق تسيير الإدارة جد عتيقة، فضلا عن روتينية العمل الإداري وجمود المساطر وغياب النزاهة والشفافية، دون أن يغفل المركزية المبالغ فيها.
مع بداية العهد الجديد بتولي الملك محمد السادس عرش المملكة، أصبح خطاب إصلاح الإدارة وتحديثها أكثر جدية مما قبل، ولقد تم تكريس هذا التوجه في دستور 2011، الذي حث على تغيير أنماط التدبير الإداري والمالي، والالتجاء إلى التقنيات الحديثة للتنظيم المتمثلة في الحكامة الجيدة، والاستغناء عن الطرق البيروقراطية العتيقة. وانطلاقا من هذه المحطة الدستورية أصبح موضوع الحكامة أكثر اهتماما من قِبل الباحثين والمهتمين بمجال التدبير، وعلى هذا الأساس سنحاول دراسة هذا الموضوع.
يعتبر مفهوم الحكامة من الاصطلاحات والمفاهيم التي تم تداولها بشكل واسع في السنوات الأخيرة على مستوى أغلب دول العالم، المتقدمة منها أو السائرة في طريق النمو، إلا أن هناك إلتباس لدى البعض في تعريفها، فهي ليست نظاما أو بنى مؤسساتية، وإنما بكل بساطة طريقة للتدبير والتسيير تعتمد على الأساليب الحديثة المعتمدة في التصور الجديد لتقنية التنظيم Le nouveau Management public وبهذا الشكل فهي مكملة و متناغمة مع مجموعة من المفاهيم التي تم تداولها ولازال كالعصرنة وتحديث الإدارة.
وبناءً على ذلك، فإن تحديث الإدارة المغربية يتطلب حكامة جيدة، إلا أن هذا لا يستقيم إلا بتبني طرق وأساليب جديدة للتدبير، كخدمة الزبائن و التدبير المرتكز على أساس النتائج و تبسيط المساطر و المحاسبة، إضافة إلى تدبير الموارد البشرية.
1- خدمة الزبائن ( Service à la clientèle).
أول ما يتبادر لنا عند الحديث عن إصلاح الإدارة، هو معرفة شكل الخدمة المقدمة للمتعاملين معها، وبشكل أدق تحديد كيف تتعامل الإدارة مع مرتفقيها، وهل يشعر المرتفق ( المتعامل) أن الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم من الضرائب التي يدفعها هم في خدمته، أم هو في خدمتهم من خلال الإتاوات والرشاوى التي قد يقدمها لهم مقابل الحصول على خدمات الإدارة. وهنا تثار إشكالية الانتقال من مرتفق إلى مواطن مؤتمن على حقوقه استنادا إلى دولة الحق والقانون، ومنه إلى زبون حيث لولاه لما أُحدث ذلك المرفق العمومي.
وهكذا ومن منظور » خدمة الزبائن« يعتبر المواطنون بمثابة زبائن للمرفق العمومي، كما هو الشأن بالنسبة للمرافق الخاصة، وانطلاقا من هذا الأساس، يجب استشارتهم من أجل معرفة تطلعاتهم وحاجاتهم من ذلك المرفق وإشراكهم في كيفية اتخاد القرار.
2- التدبير المرتكز على أساس النتائج ( La gestion par résultat)
يستلزم هذا النوع من التدبير، الأخذ بعين الاعتبار ثلاث عوامل لها علاقة بالمردودية، أولها تحديد مؤشرات المردودية، النتائج المتوخاة في القطاع العام جد متنوعة ويصعب حصرها في مفردات معينة، إلا أنه بالرغم من ذلك هناك بعض المؤشرات تعتبر ضرورية لقياس مردودية المرفق العام، كمؤشري الكفاءة والفعالية.العامل الثاني يتعلق بضرورة عدم إهمال التقييم العام للسياسات والبرامج المتبعة من طرف الإدارة العمومية، هذا النوع من التقييم يساعد على معرفة مدى نجاعة مردودية المرفق العام وأثرها على المجتمع بصفة عامة وعلى الفئة المستفيدة من هذا المرفق بصفة خاصة.العامل الثالث، يتعلق بالعلاقة بين تحقيق مردودية جيدة واحترام القانون، فإنجاز نتائج جيدة يجب ان لا يشوبه خرق للقانون، حيث يستوجب على الإداريين والمسيرين أثناء تدبيرهم للمرفق العام، الالتزام بالقانون والتحلي بالقيم الديمقراطية من قبيل الشفافية والنزاهة، ويأتي بعد ذلك البحث عن تحقيق أفضل النتائج، و الأمر ينطبق بشكل كبير على المؤسسات العمومية التي تتمتع باستقلال مالي وإداري.
3- تبسيط المساطر (Allégement réglementaire )
الحكامة الجيدة للمرفق العام تتطلب مساطر مبسطة وتراتبية إدارية مصغرة، تكون سهلة وفي متناول المواطنين اتباعها، والأهم في هذا المحور هو عدم تركيز السلطة في يد شخص أو جهة معينة، فضعف التفويض يؤدي إلى التأخر في صدور القرارات الإدارية وكذا إلى تكدس الملفات وتراكمها نتيجة انتظار الموافقة أو إمضاء الجهات العليا، مما يؤدي إلى إرباك السير العام للمرفق وإحباط المرؤوسين وتكريس نوعا من عدم الرضا في نفوس المواطنين، وهكذا فإن تفويض الصلاحيات والاختصاصات يقلص من مسألة الشطط في استعمال السلطة ويساهم في تسريع وثيرة حصول المواطنين على خدمات الإدارة وعدم طولانتظارهم.
4- المحاسبة ( L’imputabilité)
منذ البدايات الأولى للإصلاح الإداري في الثمانينات من القرن الماضي والكل - سياسيين، إداريين وأكاديميين- يتحدث عن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وعلى ضرورة تنزيله على أرضالواقع، إلا أنه لم يتم طرح السؤال المهم والمتمثل في، من يعين المسؤول؟ فإذا كان التعيين أو الاختيار لا يتم على أسس شفافة ونزيهة، فلا نعتقد أنه ستكونهناك محاسبة، وإن تمت فإنها لا تتعدى المحاسبة الشكلية. ولهذا نرى أنه من الأنسب أن تنصب كل الجهود على تحقيق النزاهة والشفافية في التعيينات و الترقيات، وبعدها يتم محاسبة المسؤولين بشكل دوري وفي كل المجالات التي لها علاقة بمسؤولياتهم سواءً كانت إدارية، مالية أو تدبيرية.
5- تدبير الموارد البشرية ( Gestion des ressources humaines)
تعتبر الموارد البشرية أهم محرك للإنتاج والعامل الأساسي في تطوير وتحديث الإدارة المغربية، وعلى هذا الأساس، فإن إشكالية تدبير هاته الموارد من الأمور التي تشكل حاجزا أمام تحقيق حكامة جيدة، فحسن التدبيرلا يمكن أن يتم إلا إذا وكلت إدارة أقسام ومصالح الموارد البشرية لمن لهم رصيد مهم من التجارب و لهم دراية وتكوين في هذا التخصص.
وانطلاقا من النظرياتالمتعددة في مجال تدبير الموارد البشرية، فإن الإدارة ملزمة بإشراك موظفيها في اي تحديث تزعم القيام به، وذلك عبر مجموعة من التقنيات المعروفة في هذا الإطار، كالتواصل، التعبئة و التكوين... إلا أن واقع حال القطاع العام بالمغرب لا يزال بعيدا عن التدبير الجيد للموارد البشرية ، والسبب يعود بالأساس إلى أن القانون الأساسي للوظيفة العمومية مستمد من نظيره الفرنسي والذي يعتمد على النموذج البيروقراطي الصرف المتسم بالمركزية في تدبير الموارد البشرية، إضافة إلى معوقات أخرى داخلية من قبيل طرق التوظيف والترقيات وكذا نظام تقييم أداء الموظفين،إضافة إلى غياب التوازن بين الإدارات و المرافق العمومية فيما يخص عدد الموظفين، فالبعض منها يعاني من نقص في الموارد البشرية في حين أن البعض الآخر، عدد موظفيها يفوق عدد الكراسي الموجودة بالمكاتب. ودون أن نغفل مسألة التكوين، فأغلب الجامعات المغربية تفتقر الى تخصص الموارد البشرية.
يمكن أن نخلص في الأخير، إلا أن تحديث الإدارة المغربية يحتاج إلى جرأة سياسية أكبر، فالخطاب الرسمي ودستور المملكة يؤكدان على أن إصلاح الإدارة أصبح ضرورة لا محيد عنها، إلا أن الانتقال إلى الفعل لازال يعاني من مجموعة من المعوقات، وهذا الأمر لن يتحقق إلا إذا تظافرت جهود كل الفاعلين، بدءًا بالمواطن، الموظف، المنتخب، هيئات المجتمع المدني الحقيقي، الأحزاب السياسية الديمقراطية و الجهات العليا.