أخبارنا المغربية
جاء الإسلام ليَحفظَ على النَّاس أنفُسَهم ودِماءهم، وأموالهم وأعراضهم، ويَمنعهم من الاعتداء على بعضِهم البَعض.. وشهادة الإنسان بالتَّوحيد "لا إله إلا الله" تَعني دُخوله في الإسلام، وتَحفَظ دمَه ومالَه وعِرضَه.. ومِنْ هَدْي وخُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم في معاملته مع الناس: معاملتهم على حسب ظواهرهم، دون البحث في نياتهم ومقاصدهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى.. قال الشاطبي: "إن أصل الحُكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحْي يُجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم".. والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم الناس على حسب ظواهرهم، وترك سرائرهم لله عز وجل.. ومِنْ هذه المواقف: موقفه صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد رضي الله عنه حين أرسله في غَزْوَةٍ إلى الحُرَقَة، وهم قَومٌ مِن قَبِيلة جُهَيْنَة، وكان ذلك في رمضان سنة سَبعٍ أو ثمانٍ مِنَ الهِجرة النبوية، فهجموا عليهم صباحًا قبْل أنْ يَشعروا وهَزَموهم، ولحق أسامةُ بن زَيدٍ ورجُلٌ مِن الأنصار رجُلًا منهمْ، فلما اقتربا منه وكادا يقتلانه، قال الحُرَقِيُّ: "لا إلهَ إلَّا الله" فكَفَّ عنه الأَنْصَارِيُّ ولم يقتُلْه، وطَعَنَه أُسامةُ رضي الله عنه برُمْحِه حتَّى قَتَله، فلمَّا رجعوا إلى المدينة المنورة، بلَغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ما فعله أُسامةُ رضي الله عنه، فأنكر عليه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلم قَتْلَه للرَّجُلِ إنكارا شديدا بعد أن شَهِد بالتوحيد قائلا: "لا إله إلا الله"..
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (بَعَثَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَة، فَصَبَّحْنَا القَوْم (هجمنا عليهم صباحًا قبل أن يشعروا بنا) فَهَزَمْنَاهُمْ، ولَحِقْتُ أنا ورَجُلٌ مِنَ الأنْصار رَجُلًا منهم، فَلَمَّا غَشِينَاه، قال: لا إله إلَّا اللَّه فَكَفَّ الأنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ برُمْحِي حتَّى قَتَلْتُه، فَلَمَّا قَدِمْنا بَلَغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أسَامة، أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قال لا إلَه إلَّا اللَّه؟! قُلتُ: كانَ مُتَعَوِّذًا (أي: لم يكُنْ قاصِدًا بذلك الإيمان، بل كان غَرَضُه التَّحصُّن وحماية نفسه مِن القتْل)، فَما زال النبي صلى الله عليه وسلم يُكَرِّرُهَا، حتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْل ذلك اليوم) رواه البخاري.
تَمَنِّي أسامة رضي الله عنه أنَّه لم يَكُنْ أسْلَم قبْل ذلك اليوم، ليس مقصوده أنه تمنَّى لو كان كافراً، لا، وإنما مقصوده أنه تمنى لو أنَّ ذلك وقع منه قبل دخوله في الإسلام، لأن الإسلام يجُبّ (يمحو) ما قبله، بحيث لا تكون هذه المعصية والذنب العظيم قد وقع منه بعد إسلامه، فقتل النفس في الإسلام أمر عظيم، والله عز وجل يقول: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}(النساء:93)، فهذا ليس بالشيء السهل، ولكن أسامة بن زيد رضي الله عنه كان مُتأوِلاً، يعني: أنه فعل ذلك لا قصداً لقتل أحد من المسلمين، وإنما فعله لأنه اعتقد أن هذا الرجل إنما قالها خوفاً مِنَ السيف، وليس صادقاً في دعوى الإيمان..
وفي روايتين لمسلم ـ الأولى ـ: قال أسامة رضي الله عنه: (فقال رَسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: أقال لا إلَه إلَّا اللَّهُ وقَتَلْتَه؟ قال: قُلتُ: يا رَسول الله، إنَّما قالَها خَوْفًا مِنَ السِّلاح، قال: أفَلا شَقَقْتَ عن قَلْبِهِ حتَّى تَعْلَمَ أقالها أمْ لا؟ فما زالَ يُكَرِّرها عَلَيَّ حتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي أسْلَمْتُ يَومَئذٍ)، والرواية الثانية: (لِمَ قَتَلْتَه؟ قال: يا رسول الله، أوْجَعَ في المُسْلِمِين، وقَتَل فُلانًا وفُلانًا، وسَمَّى له نَفَرًا، وإنِّي حَمَلْتُ عليه، فَلَمَّا رَأى السَّيْف قال: لا إلَهَ إلَّا اللَّه، قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: أقَتَلْتَه؟ قال: نَعَمْ، قال: فَكيفَ تَصْنَعُ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إذا جاءَتْ يَومَ القِيامَة؟ قال: يا رَسول الله، اسْتَغْفِرْ لِي، قال: وكيف تَصْنع بلا إلَه إلَّا اللَّه إذا جاءَت يَوم القِيامة؟ قال: فجعل لا يَزِيده على أنْ يقول: كيفَ تَصْنع بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إذا جاءَتْ يَوم القيامة). وقد روى مسلم هذين الحديثين في صحيحه في كتاب الإيمان ـ باب: "تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله".
وفي عدَم استغفارِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه رغم طلبه ذلك منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلحاحه عليه، نوع مِنَ التأنيب والزجر له، والتخويف والتحذير لغَيرِه مِن المسلمين، مع أنه مِنَ المعلوم ـ مِن السيرة النبوية ـ أن أسامة رضي الله عنه كان مشهوراً ومعروفاً بأنه حِبُّ النبي صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّه، حتى أنه كان يُدْعى أسامة بن زيد بن محمد قبل أن يُنسخ التبني، ومع حُبَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الشديد لأسامة ولأبيه مِنْ قبله رضي الله عنهما، لم يشفع له ذلك عندما أخطأ هذا الخطأ، فكان اللوم والمحاسبة الشديدة، حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا هذا اليوم، حتى يهدم ويمحو إسلامُه ما كان قبله، وبقي هذا الأثر في نفسه بقية عمره، حتى عُرِف بذلك واشتهر به..
هذا الحديث والموقف النبوي مع أسامة بن زيد رضي الله عنه فيه: دلالة واضحة على وجوب الحكم بالظاهر، والتحذير الشديد مِنْ تجاوز الظاهر إلى السرائر، والحُكم على ما في القلوب دون بينة ودليل، وفيه: عِظَمُ حقِّ كلمةِ التَّوْحِيدِ وأهلِها، وفيه: أنَّ المسلم يجِب أن يحذَر كل الحذر أنْ يقع في كفر أو في سفك دَم إنسان..
قال الخطابي: "فيه من الفقه أنَّ الكافر إذا تكلَّم بالشهادة وإن لم يصف الإيمان وَجَبَ الكَفُّ عنه والوقوف عن قتله سواء أكان بعد القدرة أم قبلها". وقال ابن حجر: "دليل على ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة". وقال النووي: "وقوله: (أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) الفاعل في قوله أقالها: هو القلب، ومعناه أنك إنما كُلِّفْتَ بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال: (أفلا شققتَ عن قلبه) لتنظر هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنتَ لست بقادرٍ على هذا فاقتصر على اللسان فحسب، يعني ولا تطلب غيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلا شققت عن قلبه) فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يُعمل فيها بالظواهر، والله يتولى السرائر، وقول أسامة: (حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذ) معناه: لم يكن تقدم إسلامي، بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم، وقال هذا الكلام من عِظم ما وقع فيه".. وقال ابن التين في شرحه لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأسامة: (أقتلتَه بَعْدَ ما قال لا إلَه إلَّا اللَّه؟!) في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحَد على قتلِ مَنْ تلفَّظ بالتوحيد".
لقد قتل أسامة رضي الله عنه ذلك الرجل في ميدان معركة كان فيها في صفوف المشركين مقاتلاً معهم، وهو لم ينطق الشهادة حتى استمكن أسامة رضي الله عنه منه، وهو على حال تدل إلا على أنه قالها مُتعوذاً مِنَ القتل، ولم يقلها مستيقناً مِنْ قلبه، ومع ذلك كله أغلق النبي صلى الله عليه وسلم هذه التأويلات، وأبان أن ما في القلب لا يحكم عليه إلا علام الغيوب ـ سبحانه وتعالى ـ قائلا: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها من قلبه أم لا؟!)، وهذا كله يبين خطورة العَجَلة في الأمور والأحكام، وعِظم حُرْمة الدماء في هَدْي وحياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم..
موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد رضي الله عنه، وغيره من مواقف وأمثلة مشابهة له في السيرة النبوية، تبين بجلاء خطورة التكفير، وشدة وعِظم حُرمة الدماء في الإسلام، وأنه ينبغي على المسلم أن يعامل الناس بما يظهر مِنْ أقوالهم وأفعالهم، ويترك سرائرهم إلى الله تعالى، وأن المعاملات والأحكام الفقهية والقضائية في هذه الدنيا تجري على مُقتضى شرائع الإسلام الموضوعة للعباد، وعلى ما يظهر منهم مِنْ أفعالهم وأقوالهم، دون إيغال في النيات، أو تحسس في المقاصد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه مُنكرا عليه إنكارا شديدا: (أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أمْ لا؟!).. وأما في الآخرة فالآثار والنتائج للأفعال تتجاوز الظواهر إلى السرائر، والضمائر والنيات، لأن الله عز وجل هو الذي يتولاها بنفسه، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}(الطارق:9)، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}(العاديات:11:9)..
مِنْ أسباب ومقاصد اهتمام علماء المسلمين بالسيرة النبوية ودراستها هو استنباط الأحكام الشرعية بأدلتها الصحيحة، واستخراج الدروس والعِبر للاستفادة منها في واقعنا وحياتنا.. والسيرة النبوية مع هذا، هي سيرة وحياة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي عصمه وحفظه ربُّه سبحانه، وهي تجسيد عملي للوحي ـ القرآن والسُنة ـ الذي يُقتدى به، وهي منهج واضح يُهتدى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتبع، وميزان توزن به الأعمال والمواقف.. كما أنها ـ دراسة السيرة النبوية ـ تساعد وتُعين على الفهم الصحيح للنصوص، وعدم الانحراف والخطأ في الفهم والتطبيق، وقد أمرنا الله عز وجل في كتابه الكريم بالاقتداء والتأسي بنبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم، وطاعته واتباعه، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(النساء80)، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران:31)، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21). قال الطبري: "أن تتأسوا به وتكونوا معه حيث كان، ولا تتخلَّفوا عنه". وقال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".