أخبارنا المغربية
مراسلة : يوسف الساكت
انتهى رمضان، ولم تنته "الحرب" ضد مافيات التهريب التي أغرقت الأسواق المغربية، خلال الشهر الفضيل، بآلاف الأطنان من المواد الغذائية والعصائر والبيض والتمور والتوابل والفواكه واللحوم والمصبرات، بعضها ضبطته مصالح الدرك الملكي والجمارك والمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، وكثير منها تحول إلى وجبات على موائد الإفطار، مع الاحتمالات، طبعا، باحتوائها على مواد مضرة، أو مسرطنة.
أغلب البلاغات التي صدرت عن وزارة الداخلية والسلطات المختصة، تحدثت عن الكميات المحتجزة واكتشاف مخازن عشوائية و"هونكارات" تكاد تنفجر بالبضائع المهربة بأنواعها، لكن لا أحد تحدث عن مصادر تلك المواد ومسارات وصولها من أطراف الحدود إلى المجمعات التجارية بالمدن الكبرى.
شمس بداية يوليوز تلهب الجباه بجوطية أولاد بوطيب تيزيري بالناظور، حيث مازالت تتوافد أعداد كبيرة من سيارات نقل البضائع، والدراجات ثلاثية العجلات (تريبوتور)، على متنها مئات الأطنان من السلع والمواد مخبأة بعناية في رزم كبيرة، بينما تحمل العجلات المطاطية وقطع الغيار في سيارات كبيرة من نوع "فارغونيت".
تقف السيارات أمام الساحة الكبيرة مقابلة لحديقة صغيرة، حيث تتكلف مجموعات من الشباب بإفراغ حمولتها، أو تتجه إلى البوابة الخلفية للجوطية نفسها، حيث تتراص عشرات المحلات والمخازن التجارية التي تكدس أنواع البضائع بكميات تفوق المتوقع، وبعضها ضاق بها المكان ووضعت، كما اتفق، في باحات أمام المخازن، ووضعت عليها غطاءات اتقاء للسرقة وأشعة الشمس.
القاعدة
الجوطية تعج بالوافدين والتجار والفضوليين والعسس الذين لا يدعون صغيرة أو كبيرة إلا ويحصونها بعيونهم، ثم يحتمون بهواتفهم المحمولة لنقل الأخبار الطازجة إلى مشغليهم، الذين ليسوا سوى تجار الجملة الكبار الذين يتحكمون في تجارة تفوح منها شبهة الممنوع.
كل شيء هنا تحت المراقبة لتوفير أقصى أنواع "الحماية والأمان" لتجارة تدر على أصحابها ملايير الدراهم سنويا، تفوق عائداتها أحيانا تجارة المخدرات التي تعرضت إلى ضربات قوية في السنوات القليلة الماضية، وانتهت تقريبا، بتدخل الدولة لتحويل بحيرة مارتشيكا التي كانت تنطلق منها قوافل الزودياكات المجهزة بمحركات قوية في اتجاه جنوب اسبانيا محملة بأطنان من الحشيش.
جميع أبناء الناظور ومسؤوليها وأجهزتها وتجارها يعرفون وظيفة جوطية أولاد طيب في سلسلة التهريب الاحترافي المنطلق من المعابر الثلاثة المتاخمة لميليلة المحتلة في اتجاه جميع المدن المغربية دون استثناء، حيث تتوصل كل مدينة ومنطقة بحصتها (كوطا) من المواد المهربة عبر شبكة معقدة من الوسطاء والتجار والسماسرة، بتواطؤ مع عناصر مرتشية من رجال الأمن والجمارك والقوات المساعدة والدرك الملكي التي تسهل المرور عبر المحاور والطرق الوطنية بليونة فائقة.
في هذا المكان، تتكدس آلاف الأطنان من المواد الغذائية والتوابل والفواكه الجافة والمصبرات والمعجنات والفواكه المجففة واللحوم المفرومة والعجلات المطاطية وقطع الغيار والهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية والغطاءات والملاءات والأحذية والملابس المستعملة (البال)..في انتظار شحنها على متن رحلات منتظمة لتوزيعها في "ربوع الوطن".
بهذه المواصفات، تشكل جوطية أولاد طيب، قاعدة تجميع استقبال وتوزيع يتحكم فيها تجار كبار غير مرئيين في أغلب الأحيان، يديرون المكان باحترافية عالية عبر شبكة من المساعدين وأساطيل من السيارات والشاحنات والسائقين الذين يتكلفون بإيصال البضائع إلى أبعد نطقة ممكنة من المغرب، لذلك، لا يستغرب عدد من زبناء أسواق "درب غلف" و"درب عمر" و"القريعة" بالدار البيضاء من وفرة السلع وانتظام وصولها بأسعار تنافسية، لوجود نقاط ارتكاز بضواحي العاصمة الاقتصادية تتجمع فيها هذه البضائع في انتظار ترويجها (مخازن و"هونكارات" معروفة بتيط مليل بوسكورة ومديونة).
نظام خاص
تخضع جوطية أولاد بوطيب إلى نظام عمل خاص، إذ لا يسمح للشاحنات من الحجم الكبير المكلفة بـ"توزيع الوطني" من الاقتراب من المكان، درءا للشبهة، واحتراما لقانون التواطؤ مع السلطات الإدارية الأمنية التي ترى، يوميا، كيف تتحرك ملايير الدراهم من أرقام المعاملات تذهب إلى جيوب أباطرة التهريب، دون أن تحرك ساكنا.
لإنجاح هذه العملية، يطلب من أصحاب "الرموكات" التوجه إلى حي عاريض، الذي يبعد بمئات الأمتار عن الجوطية، والانتظار هناك إلى حين وصول البضائع محملة في سيارات صغيرة، أو سيارات من نوع "فارغونيت" غير مكشوفة، تقوم على مدار الساعة برحلات مكوكية بين الجوطية والحي لنقل السلع والمواد المراد إخرجها من حدود الناظور والتوجه بها إلى مدن أخرى.
في هذا الحي المربح، لجأ عدد من أصحاب المنازل إلى توفير محلات تجارية كبرى في الطوابق السفلى، يستخدمها بعض الأباطرة والتجار في تخزين بضائعهم المنقولة من جوطية أولاد بوطيب، في انتظار شحنها على متن الشاحنات من الحجم الكبير.
على المحاور الطرقية، تمر الشاحنات المحملة بالبضائع المهربة على "عينيك أبن عدي" أمام حواجز الدرك الملكي والجمارك، إذ غالبا، ما يدلي سائق الشاحنة بتصريح جمركي، أو جواز مرور، غير ممهور، مسلم للمالك الأصلي للبضاعة منذ أكثر من ثلاثة أشهر تقريبا، على سبيل التصريح بخروج شحنة بعينها من السلع، لكن يلجأ إلى استعماله في عشرات الشحنات والرحلات، إذ يكفي السائق أن يظهر "ورقة زرقاء" لرجل درك أو جمركي، حتى يغض الأخير الطرف عن وضع طابعه على جواز المرور قصد تمديد "صلاحيته القانونية" إلى أقصى ما يمكن من الشهور.
في ثخوم الثغر
لفهم هذه الحلقة ما قبل الأخيرة من التخزين والتوزيع، كان ينبغي علينا أن تشد الرحال مسافة قصيرة، وبالضبط في اتجاه معابر مليلية (بني نصار، وباري تشينو، وفرخانة)، لمعاينة حشود السيارات والحمالين (الحمالات على الخصوص)، ومئات المواطنين الذين ينتظرون "فرصة" للدخول إلى الثغر المحتل، سواء من أجل الشغل، أو التسوق، أو البحث عن فرصة لتهريب كميات صغيرة من البضائع والسلع، في إطار التهريب المعيشي البسيط، لإعادة بيعها لتجار التقسيط.
بين هؤلاء لا يمكن العثور، طبعا، على مهربين من نوع آخر لا يحتاجون إلى الوقوف في طوابير طويلة، أو الاصطفاف في سيارات من أجل الدخول، لأنهم يوجدون هناك خلف الحدود، وهم الذين يتحكمون في العملية برمتها من ألفها إلى ختامها.
في هذا المكان، يطلقون عليهم مافيات التهريب، أو أباطرة التهريب، أو التجار الكبار (مع بعض الاحترام)، وأغلبهم من "متقاعدي" تهريب المخدرات، وجدوا التهريب الاحترافي ملاذا مربحا استثمروا فيه أمولا طائلة من عائدات تجارتهم السابقة، وجنوا منه أرباحا خيالة، يغسلونها في قطاع العقار بالبيضاء وحي المطار بالعروي وواد أمليل وطنجة والمنتجعات السياحية والفنادق وشراء حصص وأسهم شركات بالمغرب وإسبانيا.
لا يخفي هؤلاء وجوهم وهوياتهم وأسماهم الحقيقية التي يعرفها الجميع هنا تقريبا، وحين تنسى يذكرونك بسجلات بعضهم في الاعتقالات والسجون وعدد السنوات التي قضوها وراء القضبان، بتهم التجارة في المخدرات، وبهذه الأسماء وبطائق الإقامة الإسبانية يملكون، اليوم، عددا من المخازن و"الهونكارات" وقاعات التبريد العملاقة بالمنطقة الصناعية بمليلية، وهي منطقة تخضع لنظام التجارة الحرة، أي التجارة المحررة من قيود الضرائب ورسوم القيمة المضافة، ما يدر على المدينة المحتلة الصغيرة، ملايير الدراهم سنويا (حوالي 2500 مليون أورو سنويا).
معركة المخازن
في هذه المنطقة، التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة من وراء الأسلاك والحواجز الحديدية التي تسيج المدينة، يمكن أن تعثر على أي شيء يخطر لك على بال أو لا يخطر. بضائع بالأطنان قادمة من كل دول العالم تصل إلى الميناء على متن بواخر تجارية وتنقل على متن شاحنات وحاويات وتخزن في مخازن ضخمة يتحكم فيها تجار من جنسية اسبانية (مسلمون ومسيحيون ويهود)، ومغاربة استطاعوا شراء بعضها أو كرائها من المصالح الحكومية بالمدينة.
وتعتبر المنطقة الصناعية بمليلية نقطة الانطلاق الأولى للبضائع والسلع التي تعبر الحدود إلى المغرب على مدار السنة، قليل منها يتوفر على تراخيص استيراد وخروج وجوازات مرور جمركية، وكثير منها يهرب بطرق ملتوية، سواء عبر شاحنات صغيرة تعبر الأبواب الثلاثة ((بني نصار، وباري تشينو، وفرخانة)، أو محملا على ظهور مئات النساء الفقيرات اللواتي يتكلفن بنقل الرزم مباشرة من المخازن إلى خارج المدينة، وسط إجراءات أمنية مذلة من الجانبين المغربي والاسباني، لا تخلو أحيانا من ابتزاز ورشوة.
شمالي
المهربين يعبرون الممر بين مليلية وبني انصار بكل حرية لا احد يتكلم معهم؛وزاءد كلما تتخيل يبيع في الاسواق وفي محل تجارية هذا ليس جديد.