أخبارنا المغربية
بقلم: إسماعيل الحلوتي
في إطار ما أضحت توفره تكنولوجيا المعلوميات والاتصال للمجتمع من آليات رقمية مجدية، تساعد كثيرا في الارتقاء بمستوى الأعمال وتطويرها من حيث الدقة، الضبط والمراقبة، السرعة في الأداء والتصدي للظواهر السلبية وخاصة منها تلك التي من شأنها الإسهام في تنامي الفساد وطمس الحقائق وغيرها من الاختلالات والموبقات، ارتأت مديرية التحديث ونظم المعلومات بوزارة العدل القيام باستثمار التقدم التكنولوجي في اتجاه تحقيق العدل وجودة الأحكام، من خلال ابتكار وظيفة جديدة خاصة بنظام تدبير القضايا الزجرية لفائدة القضاة بمحاكم المملكة المغربية.
ذلك أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية أصدر يوم الإثنين 27 فبراير 2023 دورية تحت رقم: 08/23 موجهة للسادة الرؤساء الأولين بمحاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، لإخبارهم بما صار متوفرا لهم من آلية رقمية حديثة تساعدهم في ضبط شهادة الشهود والتصدي للمتلاعبين بها. حيث تم الكشف عن آلية جديدة تتعلق بتدبير مختلف القضايا الزجرية المرتبطة بهذه الآفة المؤرقة، وهي آلية توفر إمكانية البحث بواسطة رقم البطاقة الوطنية للتعريف أو الإسم العائلي والإسم الشخصي عن كافة الملفات والمحاضر والشكايات التي يمكن للشاهد أن يكون قد سبق له الإدلاء فيها بشهادته، فضلا عن أنها ستساهم في تيسير مأمورية ضبط الحالات المنافية للضوابط القانونية في أداء الشهادة، وبالتالي محاصرة محترفي "شهادة الزور" والحد من هذه الظاهرة المشينة.
وجدير بالذكر أن محاكم المغرب ما انفكت تشكو من تنامي ظاهرة "شهادة الزور"، التي أصبحت في غياب المراقبة الصارمة تشكل لعديد العاطلين ومنعدمي الضمير نوعا من المهن الحرة وذات الكسب السهل والسريع. وهو ما أدى إلى تزايد أعداد "شهود الزور" أمام المحاكم مقابل مبالغ مالية أو عائدات عينية أو فقط للمحاباة والمجاملة، غير عابئين بما لتزوير الحقائق من عواقب وخيمة على الأفراد والمجتمع. وتزدهر هذه "الحرفة" في القضايا ذات الارتباط الوثيق بالأحوال الشخصية والأسرية، من قبيل ملفات النفقة والهجر والضرر، وكذا ملفات النزاعات الإدارية أو ملكية العقارات والخصومات بين العائلات والجيران وغيرها كثير، حيث يتم لجوء بعض المتقاضين ممن تعوزهم الحجة في دعم ملفاتهم وتحقيق "الانتصار" على خصومهم إلى خدمات محترفي شهادة الزور.
فشهادة الزور من أعظم الكبائر التي يجب على المسلم الحق الابتعاد عنها لقوله تعالى في سورة الحج الآية 30: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور"، وتعرف بأنها تعمد الحنث باليمين وتزوير لقول الحقيقة سواء كانت منطوقة أو مكتوبة بغرض تضليل العدالة، وهي من الأفعال المحرمة في كل الأديان السماوية والشرائع القانونية. وهكذا نجد أن الشرع يعرفها بكونها "افتراء شاهد ما عن طريق رواية أمر يخص قضية جنائية، قد يساند المتهم أو يتجاهله. وعادة ما يكون مستأجرا من قبل المتهم الرئيسي، وأحيانا يفعل ذلك بدافع الحقد والكراهية ليس إلا" وتصنف في القانون المغربي ضمن الجرائم التي يعاقب عليها المتهم بأشد العقوبات، جراء ما يترتب عن فعلها من مخاطر وآثار سيئة. وتتمثل هذه العقوبات في عدة مواد ونصوص من القانون الجنائي، ومنها مثلا: المادة 369 التي تنص على أن "من شهد زورا في قضية ما سواء شهادة مع الجاني أم ضده، يحكم عليه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، ودفع غرامة مالية قدرها من 10 إلى 100 ألف درهم. وفي حال تم الحكم على الجاني بعقوبة أكثر من العقوبة المقررة المعروفة في القانون، يتم الحكم على شاهد الزور بالعقوبة نفسها" وهناك كذلك المواد 370 و371 و372.
وبالرغم من غياب إحصائيات دقيقة حول عدد محترفي شهادة الزور الذين يرابطون أمام المحاكم، دون أن تفلح أجهزة الأمن في التصدي لهم وتطهير محيط المحاكم منهم، ولا حتى كاميرات المراقبة التي نصبت في السنوات الأخيرة قصد تتبع خطوات المشتبه في سلوكهم من المعتادين على ارتياد المحاكم ورصد تحركاتهم، فإن هناك مراقبين يؤكدون على تزايد أعدادهم ولاسيما في المدن الصغرى أو المناطق الهامشية، حيث تفاقم معدلات الفقر والبطالة وانتشار الأمية القانونية بين المتقاضين، بالإضافة إلى شيوع الرغبة لدى البعض في الانتقام، لافتقارهم إلى الوازع الديني والأخلاقي قبل وأثناء أداء القسم أمام القضاة، لترجيح كفة طرف ضد آخر بلا وجل ولا خجل، من أجل الاستفادة من مقابل مادي وغيره أو تصفية حسابات شخصية.
إننا إذ نثمن عاليا إقدام المجلس الأعلى للسلطة القضائية على مثل هذه الخطوة الجريئة والهادفة إلى القطع مع مختلف محاولات توظيف شهود الزور في تضليل العدالة بهدف كسب قضايا معروضة عليها، معتمدا في ذلك على سلاح رقمي لتيسير مهام القضاة على مستوى محاكم المملكة، فإننا ندعو إلى ضرورة اعتماد الرقمنة ليس فقط في تضييق الخناق على محترفي "شهادة الزور"، بل كذلك في محاربة وردع التملص الضريبي وغيره من مظاهر الغش والفساد في مختلف الإدارات والمؤسسات العمومية.