رشيد أخريبيش
في الحقيقة صدمت عندما قرأت أن منصف المرزوقي الرئيس التونسي المنتهية ولايته قد تنازل عن كل الهدايا التي تلقاها من رؤساء وملوك الدول، أثناء توليه رئاسة تونس في المرحلة الانتقالية وذلك لأننا في أوطاننا لم نتعود على مثل هذه الظواهر التي تظهر مدى حرص الحاكم على شعبه وعلى مصالحه .
منصف المرزوقي وإن كان لم يقدر له أن يدخل قصر قرطاج مرة أخرى فإن الرجل يستحق كل التقدير والاحترام، لديمقراطيته التي قلما نجدها في حكامنا الذين يحكمون شعوبهم بقبضة من حديد إلى أجل غير مسمى، خاصة عندما سلم السلطة مؤخرا لخصمه القائد السبسي الذي فاز برئاسة تونس ودعا أنصاره إلى القبول بنتائج الانتخابات ، ثم إن الخطوة الأهم في كل ذلك و التي أظهرت قمة الحكمة والتعاطف ، هي تنازله عن كل الهدايا التي تلقاها من الرؤساء والملوك لشعبه ليرد الجميل لهذا الشعب الذي اختاره لكي يكون رئيسا للفترة الانتقالية ،التي جاءت بانتخابات رئاسية أظهرت للعالم كله تجربة هذا البلد الذي نجح في ثورته بخلاف كل الدول التي تعثرت في بداية الطريق، وأصبحت فريسة للتطاحنات التي أنهكت دول الربيع وقسمتها إلى ملل ونحل متناحرة .
الدول العربية ودول المغرب الكبير الذين استعبدوا الشعوب وجعلوهم مثل القطعان لا يعصون ما أمروا فما إن يسألهم الشعب عن الديمقراطية ويطالبهم بحقوقه المشروعة حتى يصب هؤلاء جام غضبهم على الشعب ويحاولون الانتقام منه بكل الطرق ، والثورات الديمقراطية التي حلت بأوطاننا خير دليل على أن هذه الأنظمة لا تعرف طريقها إلى الديمقراطية ومستعدة للفتك بشعوبها من أجل البقاء في السلطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فما قام به السيد المرزوقي هو رسالة إلى هؤلاء الحكام أن يتخلصوا من انانيتهم ويتركوا الشعوب تقرر مصيرها بأيديها .
إذا كانت تونس التي انطلقت منها شرارة الثورات قد أعطت الدروس لمختلف الدول بعد انتخاب رئيسها بشكل ديمقراطي ، فإن السيد المرزوقي هو الآخر قد وجه صفعة إلى كل الحكام الذين ما يزالون يحكمون شعوبهم بعقلية التسلط والاستبداد والذين يرفضون التنحي من الكرسي إلا بإحدى الحسنيين موت محقق من عند الله، أو ثورة تزلزل الأرض من تحت أقدامهم .
إذا كان السيد المرزوقي قد أظهر حرصه على الشعب التونسي بعد أن سلم السلطة بطريقة سلسة إلى خصمه بعد أن فاز برئاسة الجمهورية ، وإذا كان قد أعطى درسا في الغيرة على الوطن وعلى أبناءه ، فإن حكامنا الشرفاء قد باعوا في المقابل أوطانهم بأثمان بخسة ولقنوا شعوبهم دروسا في الديكتاتورية والتسلط والخضوع ، حتى أصبحت هذه الشعوب تخشى من الديمقراطية .
حكامنا الشرفاء أصحاب الفخامة والذين تسبح الشعوب بحمدهم كرها ، لم يفكروا يوما في أن يمدوا هذه الشعوب كغيرها من شعوب العالم بقسط من الديمقراطية ، ولم يفكروا في الكف عن سرق ثرواتها وتهريبها إلى الخارج ، بل تمادوا في استبدادهم، وإذا تكلم الشعب وطالب بالحرية والكرامة قذفوه بالطائرات والذبابات واتهموه بالخيانة وأبادوه عن بكرة أبيه ،ولنا في أوطاننا أمثلة كثيرة عن هؤلاء الحكام الذين يضحون بالغالي والنفيس من أجل البقاء في السلطة .
نتمنى من هؤلاء الحكام الذين حكموا شعوبهم لمدد طويلة غصبا، أن يتعلموا الدروس من السيد المرزوقي الذي يقدر شعبه والذي تنازل له عن كل الهبات والهدايا التي تلقاها أثناء فترة حكمه ،وأن يتحلوا بديمقراطية الرجل التي أبداها عندما اختار الشعب التونسي خصمه القائد السبسي لكي يكون رئيسا للجمهورية، ومن ثم القطع مع مرحلة الاستبداد وإنجاح الثورة والوصول بها إلى بر الامان.
هنيئا مرة أخرى للشعب التونسي على إنجاح ثورته المجيدة ،وهنيئا له بالحفاظ عليها وعدم الانسياق وراء الحملات المغرضة التي كانت تشنها بعض الدول التي لا تريد للثورات الديمقراطية أن تنجح ، وهنيئا له بهؤلاء الحكماء الذين لا يريدون من حكم تونس سوى مصلحة الشعب التونسي .