محسين الهواري
يعتبر الهجوم الذي تعرضت له مجلة شارلي إيبدو عملا إرهابيا صرفا له أبعاد سياسية واجتماعية على مبادئ وقيم فرنسا الديمقراطية. هجوم خطط له بدقة متناهية وفق أجندات سياسية تخدم أساسا مصالح التنظيمات الفاشية كحزب الجبهة الوطنية الفرنسي لسد الطريق على الأحزاب اليسارية التي أصبحت تكتسح المشهد السياسي الأوروبي يوما بعد يوم كحزبي سريزا اليوناني وبوديموس الإسباني.
كما يأتي هذا العمل الإرهابي الذي ضرب عاصمة الأنوار في سياق دولي يتميز باشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية. سياق عجز فيه منظروا الإمبريالية عن إيجاد وصفة ناجعة ولو للتخفيف من آثارها. فالإمبريالية الأمريكية تدرك جيدا أبعاد نجاح النموذج الاشتراكي بأمريكا اللاتينية وخطر الإقتداء به من طرف قوى سياسية يسارية أوروبية كل استطلاعات الرأي تؤكد تصاعد قوتها الانتخابية.
لا يكمن للإمبريالية أن تعترف بكون الأزمة التي يعيشها العالم هي بفعل سياسة اقتصادية ذات طابع رأسمالي تُراكم الثروة في يد حفنة من البرجوازيين وتزيد من فقر وحاجة الغالبية العظمى من السكان والواقع الاقتصادي الأوروبي يؤكد ذلك حيث تضاعفت، رغم واقع الأزمة البنيوي، أرباح البنكيين والشركات الكبرى بينما تراجع دخل الأجراء إلى مستويات كبيرة. الإمبريالية تترك مصدر الداء، وهي الداء، وتبحث عن مصادر أخرى لإخلاء ذمتها من القيح الذي أصاب جسم الإنسانية مسخرة لذلك أذرعها الإعلامية.
فالإعلام يقوم بكل شيء إلا الإخبار. يوجه الرأي العام، يصنعه، يسممه، يصنع أصناما في لاوعي الإنسان، يهدم أخرى. لذا تستثمر الامبريالية فيه/ تستحوذ عليه لحشو عقول البشر بكل ما يخدم أهدافها السياسية. لذا نجد أن الإعلام الغربي لا يقدم للرأي العام عدوه الحقيقي، أو بتعبير أدق، نقيضه الرئيسي المتمثل في أرباب كبريات شركات الأسلحة والشركات النفطية... بل يقدم له عدوا افتراضيا من صناعة مختبرات البنتاغون: الإرهاب الإسلامي.
إنه لا يخبرنا عن الجهة المنتجة والمصدرة للنفط العراقي ولا يعلمنا بوجود قواعد عسكرية أمريكية تحرس أبار الذهب الأسود ببلاد الرافدين دون أن تمسها رشاشات داعش. كما لا يكشف لنا عن الجهة التي تزود التنظيمات "الجهادية" بأحدث المعدات العسكرية بل يكتفي بنقل صور القتل والدمار. إن مثل هذا الإعلام لا يخبر ولا يبحث عن الحقيقة بل يعمل على نشر الرعب. هو التجسيد الفعلي للسياسة الإمبريالية: الأمن أفضل من الخبز.
المفكر نعوم تشومسكي أعد لائحة بأهم الاستراتيجيات التي تستعملها وسائل الإعلام لصناعة وتوجيه الرأي العام. نجد من بينها الإستراتيجية المسماة: " مشكل- ردة الفعل- حل" حيث تقوم جهة معينة، لها مصالح محددة، بابتداع مشكل ما كالعمل على الرفع من مستوى الجريمة أو القيام بتفجيرات دموية وانتظار، بعد ذلك، ردة فعل المواطن ومن تم اتخاذ تدابير وتشريع قوانين سالبة لحريته. أو خلق أزمات اقتصادية تجعل من السهل قبول المواطن بتشريعات تستهدف ضرب حقوقه الاجتماعية.
لا يجب التركيز كثيرا على فعل الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له مجلة شاغلي إيبدو بل يجب الاهتمام أكثر بتداعياته السياسية. هذا الفعل الإجرامي سيغير الخريطة السياسية بأوروبا. سيعطي نفسا جديدا للأحزاب اليمينية المتطرفة التي تختزل مشاكل أوروبا في الهجرة وفي الأخر غير الأوروبي- غير المسيحي. هذا الفعل الإجرامي سيحد من تقدم الأحزاب اليسارية التي تتبنى برامج سياسية لا ترى في سياسة التقشف حلا لمعضلات أوروبا الاقتصادية كما لا ترى في الهجرة عنصر أزمة.
إن الإمبريالية لا تخشى عنف التنظيمات الدينية، كما لا يقلقها بروز التنظيمات الفاشية والنازية من جديد. على العكس من ذلك، فالفاشية الدينية والعرقية هي نتاج وانعكاس لنظام امبريالي منهك ومتهالك. هي بمثابة أدرع واقية تقيها (الامبريالية) عواصف التنظيمات والأحزاب السياسية التي تتناقض معها اقتصاديا وسياسيا وايدولوجيا. وما الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له أقلام مجلة شاغلي إيبدو إلا حملة انتخابية سابقة لأوانها.