محمد العولي
لقد تمكنت الدولة ولفترة كافية مع إخفاقاتها لإصلاح منظومة التعليم، أن تكون خبرة وتجربة وتشخيصا للأسباب الحقيقة والهامشية، والأسباب الممكن حلها، والأخرى غير المسموح التفكير فيها، المعيقة للإصلاح، منها أسباب موروثة تاريخيا، ذات مرجعية سياسية أمنية، مرتبطة بفترة السبعينيات والثمانينيات، والتي تميزت بالصراع بين النسقين التربوي و السياسي، كان أبطالها وضحاياها رجال تعليم وتلاميذ، حتى تسلم الملف، حجاج قضية التعليم آنذاك إدريس البصري، الذي بدأت معه سياسة ممنهجة لاستهداف التعليم، وأسباب مكتسبة منها ما هو كامن في منسوب الاختلاف والتوافق بين المرجعيات الإيديولوجية والسياسية والمصالح الاقتصادية لمختلف الفرقاء والتيارات والأطياف حول رؤية الإصلاح، ومنها أسباب مرتبطة بتعشيش الفساد الإداري حول الصفقات والمشاريع، سواء على المستوى المركزي أو الجهوي أو المحلي، وبالمحصلة، استشراء الفساد التعليمي التربوي في صفوف المدرسين والتلاميذ والآباء على سبيل التعميم، ومنها أسباب مرتبطة بحجم الديون الأجنبية القديمة، وكذا الجديدة مع حكومة الربيع العربي، فلا يستبعد من التحليل، علاقة الاقدام إلى اعتماد التوظيف بالتعاقد بذل الترسيم، خاصة في قطاعي الصحة والتعليم، وهما القطاعين الأكثر تشغيلا بالمغرب، مع إملاءات البنوك المانحة، وإذا كان الأمر كذلك، فما سيتم التركيز عليه والأحوال هذه، هو أن تتخذ الحكومة من الاجراءات ما يمكنها من الالتزام بجدولة الديون، ويصب في الآن ذاته في خدمة (إصلاح التعليم )
بقليل من الهدوء، يمكننا أن نجتهد في تصور طبيعة الأسئلة التي تطرحها وتشتغل عليها هيئة الحل والعقد لقضية التعليم ببلادنا بخصوص اعتماد التوظيف بالتعاقد بذل الترسيم، من قبيل: كم تبلغ نسبة رجال ونساء التعليم الممارسين(مدرسين وهيئة إشراف، وإداريين...) الذين تتوفر فيهم قابلية الانخراط والاستمرار في الإصلاح لإنجاح حقيقي للتعليم؟، إذا كان قطاع التعليم خلال السنوات القليلة المقبلة سيشهد خصاصا مهولا في الموارد البشرية الآهلة للتقاعد، فإنها فرصة نادرة جدا للإصلاح، عبر انتقاء رجال تعليم أكفاء، لكن السؤال هو، كم عدد خريجي الجامعات حاليا ومستقبلا، الذين تتوفر فيهم القابلية لإنجاح ورش كبير مثل التعليم؟ أم أن التخوف كل التخوف الوارد، من الاحتماء بسلك الوظيفة العمومية، حيث إعادة إنتاج الكسل والخمول، وبالتالي الفشل؟ إلى أي حد يمكن إصلاح الإدارة من داخل واقع حالها مع الفساد والإفساد؟ ما هي نسبة الأسر المغربية التي تتوفر على القابلية للانخراط والمشاركة في ورش إصلاح التعليم كي تستحق مجانية التعليم لأبنائها؟ إلى أي حد يمكن للمجتمع والدولة أن تتحمل الخسائر الاقتصادية والحضارية المترتبة عن سياسة مجانية التعليم؟ ما السبيل إلى تطوير قطاع التعليم من داخل رؤية غياب الإرادة السياسية للإصلاح؟ ما السبيل إلى إبهار المجتمع بجدوى إجراءات الإصلاح، دون أن ينتبه هذا الأخير مبكرا إلى أن إيمانه بجدوى التعليم المجاني يقتل داخله، حتى يحسب المدرسة ميتة؟
إن مهندسو الإصلاح، لا يحتاجون إلى كثير من التشخيص والتحليل كي يستنتجوا أن التعليم بمواصفاته الجارية يخرج فاشلين، فاستفحال الغش في الامتحانات على سبيل المثال كظاهرة متعددة الأسباب والمداخل خاصة في مرحلة التعليم الثانوي التأهيلي، تقدم لنا تصورا واضحا عن صورة وطبيعة رجل الغد، فالمتعلم الذي ينتشل باكالوريا شكلية وفارغة من حيث المضمون، معرفيا ومهاريا ووجدانيا ومنهجيا واستراتيجيا، وبكل بساطة فقابلية الفشل التي تشربها داخل الأسرة، وعززها في المدرسة، سينقلها معه ليصقلها، في تعليم ما بعد الباكالوريا، خاصة إلى الجامعة، الحاضنة لكل مساوئ التعليم ما قبل الجامعي، والمكتنزة هي الأخرى لمساوئ وقابليات فشل لا عد لها. والسؤال المطروح: إذا كان نصف رجال ونساء التعليم على سبيل المثال سيتقاعدون ابتداء من سنة 2020، كم نسبة خريجي الجامعات المقبلين على التوظيف في قطاع التعليم قادرين على الانخراط في إصلاح حقيقي للتعليم؟ وهل يجوز منطقيا إعادة إنتاج نفس الأخطاء بخصوص التوظيف بالترسيم وليس التعاقد؟
إن الدولة لم تعد تخجل من الإشارة أو القول، أنها لم تعد قادرة على تحمل نتائج وأعباء فشلها في تدبير قطاع التعليم، فنحن في عصر التكوين الذاتي والمستمر، والبقاء فيه للأصلح والأجدر، والقادر على تغيير وظيفته أكثر من مرة خلال السنة، وبطبيعة الحال، النتيجة المنتظرة، أن لا أحد من الآن من الأكفاء على الأقل، سيسعى إلى توريط مستقبله في مستنقع التعليم، وسيتحول القطاع إلى وجهة للفاشلين، أو لعابري سبيل، وبالتدريج سيتقبل المجتمع مرغما، فكرة موت المدرسة، وأن التعليم الحقيقي هو التعليم الذي تسهر عليه الأسرة، ومؤدى عنه، وآنذاك فقط سيستوعب المجتمع الدرس ولكن في وقت متأخر.
إن المتابع المتأمل في الاجراءات التي اتخذتها الحكومة في مجال التعليم، بخصوص اعتماد التوظيف بالتعاقد، يمكن أن يستشف أننا أمام اجتهاد معين للإصلاح برؤية قديمة جديدة، انتقائية، وفئوية، ولكن على ما يبدوا أن الترتيب المتبع في الإجراءات المتخذة خدمة للرؤية والهدف، معدة بحيث لا تسمح بإثارة الانتباه، خشية من التئام ردود فعل أسرة التعليم والمجتمع، مع حراك الجماعات المناوئة والأحزاب المعارضة لكل بن كيران، منهجيا ووجوديا.
لقد فشلت لحد الآن كل الاجراءات والتدابير التقنية والمؤسساتية والمادية، التي اتخذت لتنزيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وكذا ما أعقبها من إصلاح للإصلاح في إطار البرنامج الاستعجالي، والواقع التنموي والمجتمعي، والسياسي، لا يتقبل استمرار الواقع المتردي للتعليم ببلادنا، وفي إطار تنويع الحلول السطحية مع شخصيات شكلية، يتم هذه المرة استهداف مكتسبات الشعب المغربي في تعليم جيد ومجاني، مع تقديم أسرة التعليم كقرابين في إطار الاجراءات الجديدة للإصلاح.
إذا اعتبرنا أن الحلقات الكبرى الأساسية في مشكل التعليم بالمغرب أبوابها موصدة، وعصية على التداول والحل كما تعلمون، لماذا استهداف رجال التعليم بالضبط من داخل الحلقة الأضعف في مشكل التعليم؟ إن التحليل السياسي الأمني للظاهرة، يقودنا إلى أن أي إصلاح ظاهريا، أي على المستوى الإعلامي، يجب أن يسوق على أنه يستهدف الطبقة المتوسطة، ولهذا فالإصلاح يجب أن يحصد ضحايا من أسرة التعليم، وقد بدأ بالفعل بحصدها وعدها، وأي ضجة قد تثار، ستبقى حبيسة محيط الضحايا، فأسرة التعليم مع واقعها المادي المزري، لم يعد الانشغال الثقافي من ضمن أولوياتها، ولم تعد قادرة على التأثير مجتمعيا ، ففي الوقت الذي لا يمكن فيه التعويل على المركزيات النقابية، على الأقل لأنها شاركت في اللجنة الملكية التي تكلفت بإعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ولم تثر أي تحفظ على المادة 135، والتي تنص على أنه: " يتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا بما في ذلك اللجوء للتعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد على صعيد المؤسسات والأقاليم والجهات"، وعلى الأكثر لأن بعضها تنخره ظواهر الفساد والتواطؤ، فإن الصورة المغلوطة التي كونتها الممارسات التاريخية في ذهنية المجتمع، حول رجل التعليم دائم الإضرابات، وغير المتوقف عن المطالبة بالزيادات، والمتمتع بأوقات كثيرة من الفراغ، والمبتز والمرسب للمتعلمين...هذه التمثلات المغرضة والمغلوطة، ستحرمه من دعم وتعاطف مع قضيته، التي هي في نهاية المطاف قضية المجتمع، الذي تستهدف حقوقه في تعلم جيد ومجاني لأبنائه أمام ناظريه، بدون أن يحرك ساكنا.
صحيح أن الدولة تتحمل الوزر الأكبر فيما جرت إليه أقدار التعليم في البلاد، بما في ذلك عدم ضبطها لباقي المؤسسات التربوية المنافسة، والضحية الحقيقية بدون شك هو المجتمع، ولكن من سيرعى مستقبل الأبناء إذا كانت الدولة لم تستطع فعل ذلك بجدارة؟ إنها بطبيعة الحال وظيفة تتحملها الأسرة قبل كل أحد، هذه النواة التربوية المهمة، لا يقال عنها الكثير، لكن ديننا الحنيف قال عنها الكثير، وحملها من المسؤوليات الكثير، ووعدها بالكثير دينيا ودنيويا.
إن الواقع التربوي والمجتمعي يظهر بما لا يدع مجالا للشك، أن آليات الإقدام، والاندفاع، والمناعة، والنجاح، وميكانزماتها الحقيقية، يرشفها وينهلها الطفل انطلاقا من نمط التربية الأسري الذي كلف به الله تعالى قبل كل شيء الآباء، فقابليات النجاح أو الفشل لدى المتعلم تبنى لبناتها الأساسية الأولى من داخل الأسرة، فالآباء الذين يسلحون أبناهم بآليات النجاح، ويوجهونهم إلى المدرسة وهم محصنون من الهدر، والعنف، والاستقطاب بمختلف مظاهره...، هؤلاء لا يكتفون فقط بالاندماج في المدرسة، بل يصنعونها ويعيشون تفاصيلها، ويبصمون آثارهم فيها، ويساهمون في بنائها واستمرارها، هؤلاء فعلا وحدهم من يستحقون خدمات التعليم الجيد المجاني، وبهم يستمر النمو الحضاري، فإلى متى ستصمد المدرسة في الاحتضان المجاني المفلس لتلاميذ مخلفات التربية المستسلمة للآباء.
والنداء الموجه لكل الآباء ذووا الضمائر الحية، أن لا تقامروا بمستقبل أبناكم وتعولوا بشكل مطلق على المدرسة، لا تتوقفوا عن متابعة أبنائكم، وتزويدهم بآليات النجاح.