مصطفى عاقل
لم يكن أحد يتوقع أن تسوء الأحوال إلى هذا الحد لمجرد كلمة لها ذلك المعنى العميق والمعبرة عن مرحلة الإنحطاط الفكري والقيمي التي بلغتها المنظومة السياسية بالمغرب، فينكشف للشعب المغربي الوجه الحقيقي للمعارضة من داخل البرلمان بعدما حولته في لمح البصر إلى ملعب لكرة القدم يعلو فيه الضجيج، والصفير ويختلط العويل بالقهقهات وتتميع الأجواء لتبلغ مرحلة السفاهة السياسية كما عبر عنها بنفسه السيد عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة.
فبمجرد أن تدخّل في لقائه الشهري الأخير أمام نواب الأمة محاولا تبرير ما يمكن تبريره بطريقته المعهودة والتي يبدو أن جميع المغاربة ألِفوها فجعلوا منها لازمة في حواراتهم وأحيانا تقليدا من فرط الإعجاب بأسلوب الرجل، أو من فرط الإختلاف معه إلى حد إنكار كل ما يأتي منه ومن حكومته، حتى انقلبت الجلسة رأسا على عقب ورُفعت إلى أجل غير مسمى.
لا مجال هنا للإستغراب في ما وقع بالبرلمان من تسفيه وتسفيه مضاد من كلا الجانبين المعارضة والحكومة، ولا ننتظر حتى نسمعها من هذا المعسكر أو ذاك، بل هي ظاهرة للعيان نراها في سلوك الفاعل السياسي مباشرة. ولا مجال لوضع تساؤلات عن حيثيات الواقعة عندما تتحدث المعطيات عن نفسها منقولة عبر الهواء، ولن نخوض في المسؤوليات عن هكذا أسلوب في الخطاب السياسي الهجين لأنه يخبرنا صراحة أن تطلعات الشعب المغربي في مستوى يصعب على النخب السياسية أن ترقى له أو تتطلع إلى بلوغه. ولن أخوض في الحديث الشريف الذي يخبرنا فيه النبي الكريم عن كون كلام الرويبضة أي السفيه الذي يتحدث في أمر العامة، إنذار كبير ببلوغ الفساد مرحلة اللاعودة في أمر البلاد.
العديد من المتتبعين سوف ينتقدون المسرحية من حيث شكلياتها، ومن حيث بدايتها ونهايتها، لكن القليل من المتتبعين مَن سوف يعتبر الأمر نتيجة حتمية للطريقة وللعقلية التي تسوس البلاد بشكل عام من أعلى هرم في السلطة إلى أسفله.
صحيح أنه لأول مرة في المغرب نفتقد معارضة رزينة لها من الكاريزما ما يميزها عن الأغلبية، ولها من الخطاب السياسي ما يجعلها تتبوأ المكانة المقتدرة للحكم أو على الأقل لتكون قوة اقتراحية داخل البرلمان من خلال ديمقراطية تشاركية لتحقيق الرفاهية للمواطن، وهو نفس القول الذي يمكن أن يُقال للأغلبية التي انجرت طواعية أو عن جهل نحو حروب دونكيشوتية يُمتهن فيها الشعور الوطني للمغاربة الذين كانوا ينظرون في الأمس القريب إلى الفاعل السياسي على أنه نبي عصره يملك عصاه يهش بها كيفما يشاء وله فيها مآرب كثيرة. وينظرون إلى العمل السياسي على أنه عمل له أهله، ولهم الإحترام والتقدير المستحق بميزان الكفائة والعمل. لكن هذا أصبح للأسف الشديد النفس العام والصورة النمطية لذى المغاربة عن العمل السياسي وأهله، وهي صورة تغيرت كثيرا على الأقل مند وفاة الملك الراحل الحسن الثاني إلى يومنا هذا.
لكن هذا التغير لم يكن منتظرا بالشكل وبالطريقة الخليعة التي نتابعها اليوم عبر وسائلنا الإعلامية، لأن العمل السياسي أصبح حرفة لمن لاحرفة له، وتجارة رابحة ما دامت المسؤولية لم ترتبط بالمحاسبة بعد، وحتى القوانين إن وجدت فإنها تجد في كل مرة من يلوي أعناقها لتعبر عن غير ما تنص عليه جبرا للخواطر التي لا قدرة للبعض على تكسيرها.
المعارضة نفسها تفاجأت برد السيد رئيس الحكومة الذي كان ضربا في عمق السفه السياسي الذي يتمتع به الحراك السياسي في بلادنا، وضربا للإنحطاط الذي بلغه الخطاب السياسي لدى الأغلبية والمعارضة، لأن هذه الاخيرة كانت تستهدف في ضرباتها تحت الحزام رئيس الحكومة وبعض الوزراء في شخصهم وفي أعراضهم، فكان لزاما عليه أن يقابلها بجنس عملها ما دام اللعب لم تعد تحكمه قوانين ولا أعراف ولا أخلاقيات.
ومن بين ضربات المعارضة الأخيرة كانت شكاواها للقصر من استغلال السيد بنكيران لشخص الملك في الصراع السياسي مع المعارضة لاسيما اقحامه في خطاباته لعبارات ود لشخص الملك، وهذا ما اعتبرته المعارضة ابتزازا سياسيا بإسم الملك.
على كل حال يبقى الشعب المغربي ذو الذاكرة القوية والحكمة البالغة، قادر بما أوتي من ذكاء وعلم لما يعيشه هذا البلد ولما كان من تاريخه، على أن يمييز بين السفيه واللبيب حكومة كانت أو معارضة.