مصطفى بن عمور
ماهي معصية / خطيئة ادم / حواء الأولى :
حين يُطرح هذا السؤال يكون الجواب دائما هو : أن ادم أكل من الشجرة التي نهاه الله عن الاقتراب هو وزوجه منها ....وطبعا مصادر هذه المعلومة هي أغلب التفاسير التراثية ...التي يعتمد أصحابها في الحديث عن قصص القرآن العظيمة الرائعة ...على ما بثه مروجو الإسرائيليات ...والتوراتيات ...والنصرانيات ....من معلومات ...وأساطير ....وحكايات ....أغلبها ...محرف ...او موضوع مخترع ....تسبب في تضليل العقل الإسلامي وإضعاف نشاطه الفكري وإقالته من مجال البحث والاكتشاف والنقد البناء .....
وهنا يكمن الخطأ ....
تعالوا إذن لنتقصى الأمر على حقيقته ..من المصدر الذي لم تطُلْه يد تحريف أو تلاعب ....وهو القرآن الكريم ..
ففي البداية بعد أن اصطفى الله آدم ....ونفخ فيه من أمر الروح كما أراد .....أمر الملائكة بالسجود تحية لآدم وتعظيما لخالقه القدير ....وبما أن إبليس تربى في حضن الملائكة ونهج طريقتهم في الطاعة والعبادة لله وحده ....فإنه وتكريما من الله له أدخله ضمن خطابه للملائكة بحامع الصفة التي تجمعه وتشركه معهم وهي الطاعة التامة لله والعبادة الخالصة له ....غير أن إبليس أظهر عن دفائن حقده وضلاله التي تتراكم وتتخفى في أعماق نفسه وكيانه ...فرفض باستعلاء أمر الله والخضوع لمقتضاه .....وأنكر بمقتضى جبلته وتكوينه الأول وعنصريته المقيتة ....أن يكون هو كما يرى نفسه ساجدا لآدم كما ظنه واعتبره ...هنا قال الله عز وجل لآدم عندما زوجه حواء وبعد أن أمر الله إبليس أن يخرج من الجنة مذؤوما مدحورا...قال لهما :
(لا تقربا هذه الشجرة ).....
ومع أن الله نهاهما عنها ...إلا أنهما أكلا منها .
هنا ينكشف لنا أن الأكل من الشجرة ...سبقه أمر آخر هو الخضوع لإغواءات الشيطان....... كيف ؟
لقد أغواهما الشيطان بالأكل من الشجرة على اعتبار أنها شجرة خارقة ...وعجائبية التكوين والوظيفة ....وميزتها الأساس أنها تهب من أكل منها ...الخلود ..والحياة الطويلة ...
هنا ستصبح المعصية مرتبطة لا بالأكل من الشجرة ....وإنما مرتبطة بقبول الغواية ...والخضوع لمقتضاها ...بإطلاق سيل الرغبة الذي يعلو على كل الإمكانات الموهوبة للإنسان ....ويجرف كل مظاهر ا لإرادة التي يختزنها في ذاته ...
وحين ينطلق ذلك السيل بكل قوته في منحدر الغواية ....لا يكاد شيء يقف في مده الكاسح ...وتياره المندفع .... وتدحرجه الرهيب ...
فالمعصية إذن ليست هي الأكل من الشجرة وإنما قابلية الغواية ...والسباحة في موجها المتلاطم ...ولجتها العميقة دون تفكر أو اعتبار للمآل ....والمنتهى .....
(.فعصى آدم ربه ...فغوى )....
هل انتهى الأمر عند هذا الحد ...؟...
أقول : كلا ....وتأملوا عميقا ...فعصى ....فغوى ....
ليس هذا هو منبع المعصية .....ليست الغواية وقبول إملاءاتها...والخضوع لمقتضياتها .،،هو منبع المعصية ...
إن منبع المعصية ...هو.....هو.....إلغاء حكم العقل ...وتعطيل ملكَته ....وجعله ظِهريا ...
نعم ....إن إلغاء العقل هو منبع المعصية....
ومبتدأ الضلال ....
وعتبة الغواية ....
ومصدر الخطيئة التي يتقلب الإنسان في وحلها ..
.وهنا ينبغي العود من جديد إلى قصة آدم وإبليس من بدايتها ....كي نتذكر ...
تعلمون انه حين امتنع إبليس عن السجود لآدم سجود تحية لا عبادة .....أمره الله بالخروج من جنة الامتحان ...بعد أن سخط عليه ....
أتذكرون ما ذا طلب أو تمنى إبليس من الله ؟؟..
..لقد طلب الخلود...طيلة مدة الحياة الأرضية ... ...(أنظرني إلى يوم يبعثون ).....فأعطاه الله ذلك الانظار ....
وكان آدم حينئذ في أحسن تقويم ....( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )
كان مخلوقا مكتمل الخلقة ظاهرا وباطنا ...يمتلك كل مميزات الإنسان المكتمل ...(خلق الإنسان علمه البيان ).ومعنى ذلك انه كان عالما بأمنية وطلب الشيطان ....خاصة وان الأحداث كانت مفاجئة ...وغريبة ...مما يستدعي حضورا تاما للعقل والانتباه والتأمل ....
ومع كل ذلك ....حين حضر إبليس لينجز خطتَه ....كانت وسيلته الأساس في الإغواء هي الفصل بين آدم وعقله ....كان همه الأخطر هو أن يبعد هذا الضوء الروحي عن موقع خطته ...ومجال تحايله ....
وكانت الغواية هي سكين الفصل أو القطع ....قال :(هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟).......وقد نجح في ذلك حيث دلاهما بغرور ....أي جعل عقلهما معلقا ..متدليا ....لا يرتكز إلى شيء ليحصل على توازنه واستقراره ....وهما ضروريان لتفعيل نشاطه ونشر نوره ...
ماذا لو أن آدم استعمل عقله ...ووظفه بطريقة منطقية منضبطة ....؟؟
كان يكفيه أن يقول لإبليس : لو كانت الشجرة هذه تَهَب الخلد أيها المخادعُ ....لكنتَ أنتَ أول من يأكل منها ...بدل أن تطلب وتتمنى من الله بكل مشاعرك أن يهبك الخلود في حياة الأرض ..
فرغم استعلائك على أمر الله ....وحقدك على تكريمه لي ....رغم كل ذلك لم تجد مناصا ولا ملجأ إلا أن تطأ على كبريائك ...وتخفض من تعاليك ....و تعطل حقدك المشتعل في كيانك ...وتطلب بكل ذلتك ..... وقِلتك .....وصغارِك.... وحقارة نفسك في مرآة نفسك ...تطلب من الله ..أن يهبك ذلك الخلود ....الذي لو كنت على يقين بأن نَسْغَه ..وسره .....ومادته ...مبثوتة في هذه الشجرة ...لما كنتَ استجديتَ ولا تمنيت ولا دست على كبريائك ...لتطلبه من الله ...ولكنتَ أكلت منها حتى تشبع من ثمارها ...وترتوي من نسغها ....وتفنى في ظلها ....
فاذهب فما أنا بالذي يلغي عقله ...ليقع في حبال غوايتك ...أو حماقاتك وضلالاتك ...
كان من المفروض من آدم والمطلوب منه أن يستحضر عقله بكل ثقة ...وقوة ....ليقطع على إبليس حبل خطته ...وتسلسلَ مكرِه .....
ولكن ....ولكن ..آدم ...ألغى حكم عقله ...وأبعد ....نوره ...من موقع القضية .....فولج باب المعصية....وما ربك بظلام للعبيد ...
ولذلك وبعد لوم الله لآدم وزوجه ....سارعا إلى التوبة قائلين : ربنا ظلمنا أنفسنا ......
ونحن إذا رجعنا إلى كلمة : ظلمنا عرفنا أنها من فعل ظلم وحروفه الأصلية هي نفسها التي تصاغ منها كلمات أخرى مثل : ظلمات الباطل وظلمة الليل ...والسبب أن الظلم إنما ينتج عن ظلام النفس والرؤية حين يُلغى نورُ العقل وحكمُه ونشاطه الايجابي النافع ...فيرتكب الإنسان ما يرتكبه من جرم أو عدوان أو خطيئة بسبب ظلمات تحُولُ بينه وبين هداية العقل ونوره ( أحاطت به خطيئته ) كأنها سحب مظلمة تحجب عنه رؤية الحقيقة كما هي .
ولعل انصع دليل على قولي هذا هو أن الله عز وجل حين اخرج ادم وزوجَه من جنة الامتحان نصحهما بقوله : (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (وظاهر أن إتباع الهدى إنما هو نشاط عقلي والضلال هو نتيجة لتعطيل ذلك النشاط او تحريف لمساره الصحيح ....مما يجعل حياة الإنسان النفسية والسلوكية تهيم في تِيه من ظلمات تحيط بوجوده ظاهريا وباطنيا ....
ظلمات يغوص فيها وحده ..يشعر بها ويكاد يلامسها ويراها رغم أن الآخرين لا يرون إلا ظاهر حياته دون مشاركة له في تلك البيئة النفسية التي تحيطه وتكتنفه ....فلكل بيئته النفسية التي يصنعها بأسلوب تفكيره وسلوكه ...ونتائجهما ...
خلاصة
إن اكبر خطيئة يرتكبها الإنسان هي حين يلغي حكم العقل بنشاطه الايجابي .... الذي وهبه الله ...أو يطفئ نوره الذي أمده به ...أو يُحَول طاقته إلى تشغيل آليات الضلال والباطل ونشر شرورها في حياة نفسه والآخرين .....ثم يأت يوم الحساب ليقول مع أمثاله : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير)ِ.
سمير مربح
أحسنت مصطفى