مصطفى بن عمور
إنتشرت في الأشهر الأخيرة شبهة /فكرة يزعم صاحبها انه عالم أزهري ،ومفادها أن الخمر حلال لا حرمة في شربها وقرع كؤوسها والتلذذ بثمالتها ، وقد ساهم الإعلام المصري ( وكم ذا في مصر من المضحكات في وقتنا الحاضر ؟؟) في الترويج لها وإقامة الجلسات والبرامج التي يُستقبل فيها ذلك العالم الكبير والكبير جدا .....لمواجهة من يرفض فكرته بما أوتي من حجج وبراهين يظنها قوية وصلبة خاصة مع بهارات من الثرثرة والصراخ ومقاطعة كلام محاوريه وتشتيت انتباههم بحركاته التي هي قريبة من حركات بهلوان نيتشه ....الذي سبق وأن وقع على أم رأسه أمام أنظار زرادشت . وأنا لن اعمل على وقوعه من حبل شبهاته التي يقفز عليها بل سأعمل على قطعها وهو واقف على رجليه حتى يكون شاهدا على انهيارها أمام ناظريه ، لعله يتعظ او يتعظ من اتبعوه او اغتروا بقفزاته يحسبونها مهارة عالية الاتقان .
رؤوس الشياطين
الشبهة التي أظهرها وناصرها ودعا الى التمسك بها ، شبهة لها ثلاثة رؤوس كأنها رؤوس الشياطين ، كل منها أبشع من الأخر وأقبح ، وهي كما يقدم ويقول :
1 _ أن الله عز وجل قال في محكم كتابه ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) وهذا في منظور العالم الكبير دلالة على حليتها ولاحرمتها
2 _ ومن يتمسك بحرمتها يواجهه بقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( المائدة 90)
3_ ومن واجهه بعد الأدلة السابقة يوجه إليه الضربة التي يظنها قاضية وهي قوله : أن هناك أحاديث وروايات صحيحة تثبت أن الرسول عليه السلام كان يشرب الخمر هو وأصحابه ، ومن ثم فكلامه صحيح بكل أدلته وحججه القوية في نظره .
وسأعمل هذا المقام على قطع رؤوس تلك الشبهة واحدا بعد الآخر ,بطريقة منهجية فيها تفصيل وتفكيك لأطروحاته بمنطق القران واللغة والعقل اولا : منطق اللغة
إن استشهاد هذا الشيخ( العالم) كما يصف نفسه بقوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . ليس فيه أي دليل لا على حلية الخمر ، بل ليس فيه دليل على علمية هذا الشيخ أو معرفته بمنطق اللغة والنحو وما يتعلق بهما ، فقد وظف هذه الآية ليس بما تقتضيه وتكشف عنه بسياقها وتركيبها بل فرض عليها ما يرغب هو في الوصول إليه ، وهو هنا يتطابق نسقيا مع من ينتقدهم ويزعم ضلالهم وأقصد جماعة داعش ومن سار على منهجها ، نعم ....فهو يستعمل نفس آليات اشتغال عقلهم المتخلف : لغويا وعقديا وفكريا ....وهو النسق العميق الذي يسكن بنيتهم النفسعقلية العميقة التي من أهم تجلياتها : إلغاء السياق عن كل النصوص القرآنية ليسهل عليهم خداع البسطاء وأنصاف المتعلمين باتخاذها دليلا على شناعة سلوكهم وضلال منهجهم وضياع إنسانيتهم ، وهي نفس الطريقة التي ركب موجتها هذا الشيخ الأزهري .....الكبير....جدا !! لقد نزع الآية المذكورة من سياقها اللغوي والدلالي الذي يساهم في كشف معناها ودلالتها بكل وضوح لمن أراد أن يتبع منهجا علميا موفقا ، وقد اقترف فعلته تلك لا ليتلاعب بالآية فهي محفوظة في سياقها بل بعقول من يتابع كلامه او يخطو بنحو خطوه أو يغتر بتهافته المبين ، لقد ألغى السياق من حسابه لينفرد بعنصر من عناصر تكوينه اللغوي والدلالي ، ويسهل عليه الرقص مع المعنى الذي يريده ويوجه المتلقي نحوه مما تنتفي معه نية الموضوعية و صفة التحقيق العلمي البناء ...ولذلك ستكون أول خطوة نخطوها هي الرجوع الآمن إلى سياق الآية لنعرف مساق معناها الحقيقي ودلالتها اللغوية الواضحة البينة ,
إن هذه الآية الكريمة آية ضمن سورة مكية وهي سورة النحل ، ومعلوم أن السور المكية لم تكن تتضمن تفصيلات تشريعية متعلقة بقضايا المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ووو كما هو حال السور المدنية ، بل كان اهتمامها يتموضع على العقيدة وترسيخها وبيان أحكامها ومعانيها لتتشربها قلوب وعقول المؤمنين وتكون حجة على غيرهم من الجاحدين أو المترددين ،ولذلك لا تتوجه بالحديث إلى المؤمنين فقط بل إلى الناس كافة بالخطاب المتكرر في السور القرآنية على صورة : يا أيها الناس أو يا أيها الإنسان أو الضمائر الدالة على الجمع كواو وميم الجماعة ....ولو عدنا لسورة النحل وتأملنا مُفتَتح آياتها سنكتشف أن الحديث لا يخص المؤمنين ولا يتوجه إليهم ، بل يشمل جميع المخاطَبين المفترضين من جنس الإنسان أجمعين ، فتبدأ السورة كما يلي : (بسم الله الرحمن الرحيم ، أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ) وتستعجلوه فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف النون لأنه من الأفعال الخمسة وواو الجماعة في محل رفع فاعل ، هذه الواو تعود على من ؟ إنها تعود على مخاطبين ليس لهم صفة محددة إلا كونهم من الناس الذين يتلقون هذا الخطاب الموجه لهم أجمعين ، ولو استمرت تلاوتنا للسورة سنكتشف في الآيات 4-6 وما بعدها ، أن الخطاب موجه للناس دون تحديد صفة أو علامة أو فئة حيث يقول سبحانه ( خلق الإنسان من نطفة فاذا هو خصيم مبين . والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون . ولكم فيها جمال حين تريحون وتسرحون ) ومن تتبع السياق بآياته جميعها نكتشف أن الله يخاطب الناس ويدعوهم إلى الإيمان بالله الخالق الذي يمنُّ عليهم بكثير من النعم التي خولها لهم جميعا، ويشتركون في الانتفاع منها واستثمار خيراتها من أنعام وشجر وليل ونهار وبحر يستخرجون منه لحما طريا وحلية يلبسونها ....ثم يقيم عليهم حجج وحدانيته ويكشف مصير المؤمنين به ومآل الكافرين به ...ثم يعود للحديث عن نعمه بطريقة أخرى حيث يقول : وان لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين . ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) .. وهكذا من خلال السياق يتضح أن آية السَّكر تدخل ضمن الإخبار عن نعم الله التي وهبها للناس جميعا وهم يتصرفون فيها انطلاقا من إرادتهم التي تختلف حسب التصورات والمذاهب والمواقف التي يؤمنون بقيمها وقواعدها ، وبما أن الإنسان كلَّ الإنسان خيَّره الله بين نجدين إما شاكرا أو كفورا ، فطريقة تعامله مع النعم الإلهية تخضع لمقتضيات ذلك الاختيار ، فمن الناس من سيتخذ من الثمار خمرا تسكر وتذهب بالعقل الذي هو مناط التكليف ،ومنهم من سيتخذ منها رزقا إما خبيثا أو حسنا ،ولذلك فالجملة الفعلية : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا هي جملة إخبار لا تشريع وأمر ، كما حاول الشيخ العالم الأزهري أن يتلاعب بمعنى الفعل ضمن تلك المتوالية اللغوية إخبار عن سلوك البشر في تفاعلهم مع تلك النعم المسخرة لهم ابتلاء لا عبثا . والأخبار لا تكون أمرا إلا اذا كانت تحفُّها قرائن لغوية وتركيبية أخرى تغير دلالتها من الإخبار عن التاريخ والواقع الى دلالة الامر والتشريع ،فقوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) اخبار يتضمن امرا بالإيمان بالغيب وايقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ليس بنفسه بل بقرائن أخرى في القرآن نفسه ، حيث يقول عز وجل : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ويقول أيضا : وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة .......أما في آية النحل فهي مكية لا تشريع فيها وإنما إخبار عن حال تصرف الناس مع نعمة من نعمه التي أسبغها عليهم وسخرها لهم ، فمنهم من يستعملها في شر ومنهم من يستعملها في خير .. فكيف صير ذلك العالم الأزهري الكبير دلالةَ الإخبار عن الواقع إلى دلالة الأمر ولا أمر فيها ، بل إنني ازعم انه رغم ان هذه الآية مكية إلا أنها تتضمن اشارة مبكرة لطيفة إلى التحريم لمن يفهم العربية ويتعمق في أسرارها ويتشرب أساليبها على العكس مما دلس به علينا الأزهري ليتلاعب بالدلالة ويخرجها عن سياقها ، كيف ؟ سأقدم في هذا السياق عدة ابدالات لتلك الجملة القرآنية ونقوم بمقارنة دلالاتها مع دلالة الجملة الأصلية مما تتضح به الحجة وينجلي معه البرهان .وهي كالتالي :
- تتخذون منه سكرا ورزقا
- تتخذون منه سكرا حسنا ورزقا حسنا .
-تتخذون منه سكرا ورزقا حسنين .
إن أي تحليل يسير لهذه الجمل البديلة عن الجملة القرآنية الأصلية ومقارنتها بدلالتها الواضحة يكشف مدى الجهل والرعونة الفكرية الشديدة التي يتميز بها بعض المجترئين على ما لا علم ولا إحاطة لهم به ، فالجملة الأولى ( تتخذون منه سكرا ورزقا ) يتحد فيها عنصرا الموضوع ويتحد حكمهما أيضا لأنهما معا اتحدا في الذكر دون تفريق او صفة تميز احدهما عن الآخر، والجملة الثانية ( تتخذون منه سكرا حسنا ورزقا حسنا ) يشترك العنصران معا ( السكر والرزق ) في نفس الصفة وهي الحسن مع تعدد النعت لكل منهما على حدة على سبيل التوكيد والتثبيت، بينما في الجملة الثالثة ( تتخذون منه سكرا ورزقا حسنين ) نجد أن النعت تطابق في تثنيته مع موصوفين متعاطفين ( معطوف ومعطوف عليه ) فالصفة تشملهما معا إعرابا ودلالة وعددا ومن ثم فهما متحدان في الصفة والحكم ، فهل تلك الدلالات مجتمعة تتفق مع دلالة الجملة القرآنية الأصلية ؟ فلنحلل ولنتأمل .
معلوم أن النعت في اللغة العربية يتبع منعوته في كل خصائصه : إعرابا وإفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا وتعريفا وتنكيرا ، فإذا فككنا الجملة القرآنية وجدنا أن هناك معطوفين يشكلان معا مثنى وعليه ينبغي أن يكون النعت بعدهما إن اشتركا فيه له نفس حكم العدد وهو التثنية نحو : جاء خالد ومحمد العالمين ، بينما نجد إن النعت في الجملة القرآنية مفردا لا مثنى ، ومعنى ذلك انه صفة لموصوف واحد وهو الذي يجاوره مجاورة تامة ، لأن النعت لا ينفصل عن منعوته ولا يبتعد عنه ، وإذا كان الأمر كذلك فان الصفة تثبت لموصوفها الذي يجاورها ويلاصقها وتنتفي عن المعطوف عليه السابق لموصوفها القريب نحو : جاء خالد ومحمد العالم ، فصفة العالم ذكرت هنا أمام معطوفين للتفريق بينهما وتمييز احدهما عن الآخر تمييزا تاما مقصودا وليس عبثيا ، وفي نفس الوقت كأنها تنفي تلك الصفة عن المعطوف عليه إشارة ودلالة واضحة ، فيفهم المستمع أن العالم هو محمد بينما خالد لا يتميز بتلك الصفة بل تنتفي عنه جلا أو كلا ، كذلك في الجملة القرآنية نجد أن الصفة مفرد مذكر ( حسنا ) تعود على موصوف لصيق بها يطابقها في الإفراد وهو ( رزقا ) ولا يمكن أن تكون صفة للمعطوف عليه ايضا وإلا اقتضت أن تكون مثنى ، ومادامت الصفة لصيقة بالرزق فهي دلالةً وإشارةً منفية عن السكر مما يدل بوضوح على انه موصوف بضدها او ما هو قريب منها وهو الخبث والقبح والفجاجة والسوء ، وهي إشارة لطيفة إلى أن السَّكر غير مستحسن أبدا عند الله ولو كان كذلك كما يريد المجترئون العابثون لَذَكَر الصفةَ مثناةً لإبعاد كل احتمال آخر ، وعليه فالسكر بمنطوق ومفهوم هذه الآية خبيث قبيح والله قد حرم الخبائث بشريعته إلى نبيه محمد عليه السلام حيث قال جل وعز عن أهم وظائف النبي عليه السلام انه ( يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) .
وهكذا تنكشف لنا ضلالة الشيخ الأزهري وجهله أو تجاهله بالسياق الذي يحتضن تلك الآية القرآنية الكريمة وكذلك بمنطق اللغة العربية وأسرارها وتركيبها وإعرابها و...و...و... مما يدل على أن فكرته تلك ميتة أو معلولة ،والسبب أن مثل هذا الشيخ لا يمحصون أفكارهم ...ولا يمتحنوها قبل إخراجها للناس ...إما عن جهل أو عن سوء طوية ، والجاهل لا يُتابَع على جهله وسيء الطوية سيُفضح وينكشف لا محالة ولو بعد حين ...واني لأرجو من كل كاتب أو مفكر أن يمحص فكرته ويبتليَها ليختبر قوتها وصلابتها ويجُسَّها ليعرف هل هي حية ام ميتة ام معلولة ...فيخرجها إن كانت حية ويدفنها إن كانت ميتة ويداويها ويطببها إن كانت مريضة ..الا فسيكون في حكم الخائن لقارئه او المتلاعب بعقله .....وهذا نصح لذوي الضمائر الحية ....وأما الأموات فلا ينتصحون ....
يتبع الجزء الثاني
مصطفى بن عمور
تصحيح خطإ مطبعي
بسم الله وقع خطأ مطبعي سهوا بسبب الرقن في الجملة التالية : جاء خالد ومحمد العالمين . والصواب : العالمان ...