عبد اللطيف الركيك
مر التحول نحو الديمقراطية في بلدان الغرب الرأسمالية بمخاضات تاريخية لم تكن سهلة، وجاءت نتاجا لتحولات فكرية ودينية وسياسية واقتصادية واجتماعية تجد جذورا لها في نهاية العصر الوسيط الأوربي وبداية الحقبة الحديثة. وذلك بدءا بالقطع مع نظام الإقطاع وتراتبيتهالاجتماعيةوأنساقه الفكرية والسياسية والدينية وتواضعاته الاقتصادية، مرورا بتحولات عصر النهضة الأوربية، ووصولا إلى تجديدات فكر عصر الأنوار وما رافقها من ثورات سياسية وضعت اللبنات الأولى للتحول نحو الديمقراطية خلال القرن 19م ومطلع القرن 20م.
لقد كان توجه الغرب نحو الديمقراطية بمثابة فتح من الفتوحات الحضارية في تاريخ البشرية من حيث كونها أعادت الاعتبار للإنسان وابتكرت قيم المواطنة لجهة المشاركة في الاختيار وصنع القرار وإنتاج النخب السياسية وتنصيب الحكومات والقدرة على تغييرها في ظل مبادئ النزاهة والشفافية. لقد كان ذلك يمثل بالفعل تحولا لافتا في عالم ظل يرزخ فيه الإنسان ومنذ العصور القديمة والوسيطية والحديثة تحت نير أشكال الوصاية والحجر والاستبداد. حتى أن كثيرا من شعوب المعمورة كانت قد استحلت العيش في كنف التحكم، وباتت صناعة وإعادة إنتاج الاستبداد ورموزه فيها جزء من بنياتها الفكرية والثقافية المستحكمة.
لذلك توزعت نظرات كثير من تلك الشعوب إلى التحول الأوربي نحو الديمقراطية بين مشاعر الرضى والاستحسان ومشاعر الريبة والشك والتردد. أولا، لأن تلك الشعوب لم تنتج داخليا نفس التحولات التي حدثت في أوربا، ولم تساهم في إنتاج التغيرات الاجتماعية القاعدية التي أفضت إلى التحول الديمقراطي الغربي، بعد أن توارثت جيلا بعد جيل ولمدة آلاف السنين ثقافة الاستبداد والتحكم وأعادت إنتاجها بنفس الشكليات. وثانيا لأنها لم تكن مستعدة على الإطلاق لتصديق أن الآلية المسماة "ديمقراطية" يمكن أن تعصف في لحظة تاريخية برموز شكلها الوعي الجمعي وغلفها بالكثير من الشكليات التي تمتح من معين الخوارق والغيبيات.
انطلق قطار الديمقراطية في الغرب الأوربي تحت أنظار شعوب باقي ربوع العالم المأهول، وقد انتصبت تلك الشعوب في المشهد كمجرد متفرجين تحكمهم مشاعر متناقضة. وفي الأثناء، شق قطار الديمقراطية الغربية طريقه بثبات رغم العقبات الكأداء التي ظلت تحف مسار الديمقراطية من كل جانب. وقد عاينت باقي شعوب المعمورة-التي ألفت الرمزيات وتوارثتها ورسختها-كيف أن الحكومات في الغرب الأوربي كانت تتشكل كنتاج لإرادة الناخبين، وتستمر أو تعزل عبر صناديق الاقتراع، وأن كثيرا من الساسة والحكام اللامعين قد أمضوا عهدتهم في الحكم، ثم انصرفوا لحال سبيلهم، وتواروا عن الأنظار، ولم يعد لهم وجود في الساحة السياسية، مثلما لم يعد يأت أحد على ذكرهم، وعادوا إلى ممارسة حياتهم العادية كباقي المواطنين دون أن يلتفت إليهم أو يهتم لأمرهم أحد.
سرعان ما بدأ تيار الديمقراطية بالانتشار بعد أن أثبت نجاعته في باقي أنحاء أوربا وخارجها في مناطق من أمريكا الجنوبية وآسيا، ثم شرعت باقي دول العالم النامي-إما مكرهة أو بإرادتها الحرة-في سلك نفس المنهجية وتجريب التداول وانتقال السلطة عبر الآلية الديمقراطية، وتراوحت النتيجة بين النجاح والفشل والتخبط هنا أو هناك.
وفي مرحلة من المراحل، انتقل الغرب الرأسمالي من طور التباهي بنموذجه الديمقراطي ودعوة شعوب الأرض للالتحاق بركب ديمقراطيته، إلى طور محاولة فرض هذا النموذج على باقي دول وشعوب العالم بالإكراه وعبر مختلف الآليات الاقتصادية منها والسياسية حتى باتت الديمقراطية خيارا عالميا ينادي به الجميع، إما عن اقتناع، وإما مواربة ومداهنة وخضوعا شكليا للضغوط الغربية.
وفي الوقت الذي كان فيه الغرب يدعو إلى تبني الديمقراطية ويحرص على تكريسها في بلدان العالم الثالث النامية بدعاوى تحقيق التحول السياسي المفضي إلى تحسين مؤشرات التنمية الاجتماعية، وإخراج تلك الدول والشعوب من دائرة التخلف، في ذات الوقت كان هذا الغرب الديمقراطي يحكم إغلاق المنافذ التي يمكن أن تتسرب عبرها أدوات التحول التقني والعلمي إلى دول العالم الثالث، ويعمل على إثقال كاهلها بالديون وبشروط جد قاسية في مسعى محموم لتكريس تبعيتها للعالم الغربي المتقدم.
وعلى ضوء ما سلف، فإنه لا مناص من النظر لتلك الدعوات الغربية على أنها لم تكن بريئة بالمرة، ولم تكن صادقة في إقران التحول نحو الديمقراطية في العالم الثالث بالتحول العلمي والتكنولوجي الذي من شأنه التأثير إيجابا على الشعوب بما يجعلها تستفيد حقيقة وفعلا من حسنات وثمار الديمقراطية على النموذج الغربي.
فبينما كان الغرب يسعى إلىاستنبات ديمقراطية على المقاس في دول العالم الثالث بأهداف غير صادقة، كان هذا العالم النامي من جهته يعمل على الالتفاف على ديمقراطية الغرب المفروضة، ويسعى إلى صبغها بصبغته وبموروثاته في الحكم والإدارة، وإخراجها على شكل واجهة موجهة لإرضاء الخارج بغية الالتفاف على الاشتراطات الغربية في موضوع المساعدات الاقتصادية والمالية، والتخلص من الضغوط الأجنبية التي اتخذت من نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان مطية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وانتزاع المصالح غير المشروعة.
في نفس الوقت، شرعت بلدان أخرى في تجريب النموذج الديمقراطي كنتاج لتحولات ومطالبات داخلية حقيقية. وقد أنتجت تلك التجارب المحلية في الكثير من البلدان حكومات بأجندة سياسية واختيارات اقتصادية لم تكن تحظى بالقبول والترحيب في الغرب. فكان الموقف من تلك الحكومات هو التضييق عليها وتشجيع الانقلاب عليها بمختلف الوسائل المناقضة لروح النهج الديمقراطي، ما يطرح الشك في حقيقة إيمان الغرب بالديمقراطية في بعدها الكوني كآلية لإفراز الحكومات والتداول على السلطة. فلعل الغرب بهذا النهج، يسعى إلى الاستفادة من مزايا الديمقراطية وحسناتها لوحده وفي دوله، وفي نفس الوقت يعمل على استنبات شكل ممسوخ لديمقراطية هجينة وموجهة ومتحكم فيها في دول العالم الثالث بما يرضي نزوعاته المتأصلة في الإبقاء على الهيمنة والتبعية.
وهناك أمثلة كثيرة لهذا النزوع الغربي المفارق، الذي يعكس انفصاما بين الخطاب المبدئي وبينواقع الممارسة العملية. فهذا الغرب الديمقراطي جدا، لم يتقبل نتائج الانتخابات على سبيل المثال في العديد من دول أمريكا الجنوبية، لا لشيء سوى لأنها أفرزت حكومات ديمقراطية يسارية لها مشروع وطني يقوم على استقلالية القرار الوطني عن التدخل الخارجي. لا، بل أن الحكومات الديمقراطية في الغرب وأدواتها هي نفسها من تكلفت بمهمة إجهاض الديمقراطية في تلك الدول، وتشجيع الانقلاب على الحكومات الشرعية(كما حصل في فنزويلا) وتبرير التعامل مع الأنظمة الاستبدادية التي قامت على أنقاضها، بل فضلت عمليات استيلاء الجيش على السلطة في الكثير من البلدان مثلالبرازيل وتشيلي والأرجنتين وأوروغواي. ففي الأرجنتين على سبيل المثالقاد الجنرال فيديلا سنة 1976 انقلابا عسكريا دمويا ضد الحكومة الديمقراطية، فكان الموقف الغربي والأمريكي تحديدا هو دعم هذا النظام الدموي-الذي قتل وشرد واعتقل ما يقرب من 30 ألف شخص-تحت ذريعة حماية المنطقة من خطر الشيوعية، بل أكثر من ذلك لم يتورع الغرب مجتمعا عن منح هذا النظام "شرف" تنظيم كأس العالم لكرة القدم سنة 1978م.
أما في مصر، فقد أجريت ولأول مرة في تاريخ هذا البلد انتخابات تشريعية ورئاسية حقيقية سنة 2011 وقد أنبرت أدوات الغرب في داخل هذا البلد وأذرعه الإعلامية في الخارج للترويج للنموذج المصري في التحول نحو الديمقراطية كنتيجة لمجريات الربيع العربي، ما اعتبر انتصارا للغرب باعتباره المحرك الرئيس لثورات الربيع العربي. كل ذلك، والغرب لا يضع في حسبانه إلا نتيجة واحدة تستجيب لخططه المعدة سلفا، وهي أن يتجه الشعب الذي أعيته سنوات الاستبداد إلى اختيار النقيض والإتيان بحكومة تخدم سياسات الغرب في المنطقة العربية. إلا أن النتيجة جاءت بعكس التوقعات تماما، وأحبطت آمال الغربيين بعدما اختار المصريون حكومة ورئيسا ينتميان إلى تيار الإسلام السياسي، الذي يُنظر إليه في الغرب بتوجس رغم التقاطعات والترابطات التي حدثت معه طيلة عقود.
لقد اقتضت شكليات وأبجديات العمل الدبلوماسي على الغرب إبداء "ابتسامة" ماكرة تجاه ما حدث في مصر، "ابتسامة" تُظهر الرضى شكلا وظاهرا، وتستبطن مشاعر القرف وعدم القبول بما جاءت به صناديق الاقتراع التي هي في الأصل اختراع صميم لهم وماركة مسجلة باسمهم، لطالما شكلت أداة للضغط على حكومات المنطقة العربية.
فها هي ذي الديمقراطية التي لطالما صدّع بها الغرب رؤوس شعوب المنطقة تتحول إلى واقع عملي في دولة عربية مشرقية، فماذا كان موقف الغرب منها؟
كان اتجاه الحكومات الغربية شكلا هو القبول على مضض بالوضع الجديد، إلا أنهم في العمق تحركوا لتشجيع الانقلاب الأبيض والأسود وبكل ألوان قوس قزح على الحكومة الديمقراطية الشرعية(التي تبقى شرعية مهما كان مستوى اختلافنا مع التيار الذي تمثله لأن الديمقراطية مبدأ لا يقبل التجزيئي) بتواطؤ مع أدوات هدم داخلية وإقليمية ودولية.لا، بل أن الغرب الذي يتغنى على الدوام بحقوق الإنسان لم يرف له جفن من الأحداث المأساوية التي رافقت وأد الديمقراطية الوليدة في مصر(وثقت منظمة هيومنرايتسووتش 817 حالة وفاة، وأكثر من ألف جريح في حادث فض اعتصام رابع العدوية لوحده، في حين تظل الإحصائيات الحقيقية مجهولة)، ولم نر من الغربيين ذلك الحزم والتهديد والوعيد بالعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية ضد هذا الخرق الواضح لقواعد الديمقراطية، ولم تطالب بعودة الديمقراطية في الحال-كما عهدنا ذلك في حالات مماثلة-تحت طائلة اتخاذ إجراءات صارمة، وحتى إن حصل ذلك من بعض الحكومات الغربية، فهو إنما كان نفاقا ومحاولة لذر الرماد في العيون وسعيا لإبراء الذمة والتنصل من الالتزام بحماية الديمقراطية كما يزعمون.
لقد أثبتت طريقة التعاطي مع التجربة المصرية في إجهاض الانتقال الديمقراطي أن الغرب إنما وظف ثورات الربيع العربي لإثارة الفوضى في البلدان العربية، واستغلال عاملي التناقضات الداخلية وفورة الغضب الشعبي جراء التسلط السياسي والحيف الاقتصادي والاجتماعي، وأن الفوضى المُدبّرة لم تكن "خلّاقة" حسب ما صدر من كواليس السياسات الغربية، وذلك لجهة توجيه التململ الاجتماعي نحو خلق أنظمة ديمقراطية حقيقية، بقدر ما كانت "مُدمّرة" للبنى الاقتصادية والأنسجة الاجتماعية، والدفع نحو المزيد من تعميق الشروخ والتناقضات الداخلية، تمهيدا لإنهاك وتفكيك الكيانات الوطنية إلى بؤر يتحكم في رسم حدودها العوامل الدينية والطائفية والمناطقية. وذلك تمهيدا للتدخل الغربي عبر وصفته السحرية المتمثلة في تقديم التقسيم والتفكيك والبلقنة على أساس أنه الحل الوحيد والممكن للأزمات الداخلية في كثير من البلدان العربية.
وبالمحصلة، فإن الغرب لا يرضى في واقع الأمر وبشكل مطلق بنتائج الديمقراطية في العالم الثالث إلا أن تأتي بحكومات طيعة تتماهى مع اختياراته وسياساته الخاصة، وإلا انقلب هؤلاء الدعاة والمبشرون ورسل الديمقراطية، وتحولوا إلى ألد أعداء الديمقراطية الساعين للإطاحة بها والانقلاب عليها مادامت لا تخدم مصالحهم. فتاريخ الغرب مع نتائج التجارب الانتخابية في دول العالم الثالثيثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنه يفضل حكومات استبدادية تابعة ومؤيدة له على حكومات ديمقراطية معارضة لسياساته وتوجهاته. إن الغرب لا يتعامل مع الديمقراطية خارج حدوده الوطنية باعتبارها مبدئا، وإنما مجرد وسيلة لتحقيق مآربه وأغراضه ومصالحة وحسب، وهو لا تهمه قيم المواطنة ولا تحرر الشعوب العالم ثالثية واستفادتها من حسنات ومزيانا الديمقراطية الحقة.