مصطفى المسناوي
لا أحد يدري، على وجه التحديد، لماذا تواصل بعض جرائدنا الموقرة إصرارها على تناول وطرح بعض القضايا الكبرى التي لا تعمل سوى على رفع الضغط والسكر عند القراء وإصابتهم بفقدان الشهية والنوم معا، أي تلك القضايا التي يدرجها طلاب الصحافة عبر العالم ضمن خانة «اهبش، تجبد حنش»؛ في حين أن مهمة الصحافة الكبرى باعتبارها «سلطة رابعة» (برفع السين وجزم اللام، وليس بفتح السين واللام معا) هي أن تفتح بال القارئ وتنيره وتسعده.
لهذا الغرض، اخترعت الصحافة الجادة شيئا اسمه الكلمات المتقاطعة والكلمات المسهمة و«حظك مع الأبراج» وأخبار النجوم والجرائم، إلى غير ذلك من المواد الصحافية الأساسية التي لا غنى عنها للقارئ في هذه الدنيا الفانية. وينبغي الاعتراف، دون خجل، بأن هناك مجموعة من المواد الصحافية الأساسية التي اندثرت، للأسف، من صحافتنا المعاصرة، رغم أنها كانت حاضرة بقوة في عدد كبير من الجرائد (المغربية والعربية والعالمية) التي تربينا عليها ورافقتنا في ردح من مراهقتنا وشبابنا، من بينها مادة يومية ثابتة كان يطلق عليها «قل ولا تقل»، منها تعلـّم جيلي أن يطلق على «الكرواصا» مقابلها الفعلي وهو «الهلالية»، وأن يطلق على «الطوبيس» اسم الحافلة، وعلى «طنجيفاس» لفظ القطار، وعلى «الرويدة» اسم العجلة و«البشكليط» اسم الدراجة.. إلى غير ذلك من الكلمات التي تعلمناها بفضل «قل ولا تقل»، وبفضلها فقط.
لكن ربما كانت المادة اليومية التي يفتقدها جيلي أكثر في الصحافة الحالية هي تلك التي كانت تنشر تحت باب يطلق عليه «هل تعلم؟»؛ بفضل هذه المادة، التي كانت بابا ثابتا في مجموعة من الصحف المحترمة، اكتسب جيلنا كثيرا من المعلومات التي وسعت ثقافته العامة، وجعلته يحظى بالاحترام بين نظرائه (من الأجيال الصاعدة)، في ذلك الوقت، في المدرسة وفي الشارع كما في جميع مناحي الحياة.
ضمن هذه المادة كنا نقرأ، مثلا، «هل تعلم أن الدب القطبي أعسر اليد؟» (أي أنه يستعمل يده اليسرى بدل اليمنى)، أو «هل تعلم أن الفيل هو الحيوان الوحيد الذي لا يستطيع القفز؟»، أو «هل تعلم أن الفراشات تتذوق بأرجلها؟»، أو «هل تعلم أن الناموس له أسنان؟»، أو «هل تعلم أن التمساح لا يستطيع مد لسانه للخارج؟»، أو «هل تعلم أن حيوان البحر ليس له مخ؟»، أو «هل تعلم أن الصرصار يمكنه العيش تسعة أيام بدون رأس، ولا يموت إلا لأنه لا يستطيع الأكل بدونها؟»... وهذه كلها معلومات مفيدة وفي غاية الأهمية، تبعث السعادة في خلايا الإنسان وعروقه، وتجعله يحس بأنه يتعلم شيئا جديدا كل يوم: لنتصوّر أننا بقينا غارقين في جهلنا نعتقد أن بإمكان التمساح أن يخرج لسانه، أو أن الناموس لا أسنان له، أو لنتصور أن بعضنا تعامل «من نيته» مع نجم البحر (وربما عقد معه تعاملات تجارية من نوع تلك التي تعقدها شركات الإنتاج عندنا مع التلفزيون) معتقدا أنه حيوان عاقل ليكتشف في النهاية أنه بدون مخ؟
وبطبيعة الحال، فإن معلومات هذا الباب لا تقتصر على الحيوانات والحشرات وحدها، بل تمتد لتشمل مجالات أخرى ذات أهمية مثل جسم الإنسان حيث كنا نقرأ: «هل تعلم أن عضلات قلبك لديها قوة تكفي لقذف الدم عشرة أمتار في الهواء؟»، أو «هل تعلم أن اللسان هو أقوى عضلة في جسم الإنسان؟»، أو «هل تعلم أنه من المستحيل أن تفتح عينيك أثناء العطس، ولو حاولت لخرجت عيناك من محجريهما؟»، أو «هل تعلم أنه من المستحيل أن يلمس الإنسان مرفقه بلسانه؟»... بفضل هذه المعلومات الثمينة استطعنا أن نفهم السر في المعجزات التي لا يصنعها سوى اللسان، كما استطعنا الحفاظ على أعيننا داخل محاجرنا بالحرص على إغلاقها أثناء العطس، وهذه كلها معلومات مفيدة لنا أكثر من معرفتنا بوجود شيء اسمه «دفتر التحملات» كنا نعيش سعداء من دونه وسنعيش كذلك في المستقبل، شريطة أن تبتعد بنا صحافتنا الموقرة (وهذا هو المعنى الفعلي لكلمة «تيقار») عن المواضيع الكبرى وتعود بنا إلى باب «هل تعلم؟»، مشجعة كل واحد منا على أن يلمس مرفقه بلسانه، وتلك أقوى مقارعة للمستحيل.