حنان عيياش
للصمت صفحات ضمن معاجمنا اللغوية كلغة خاصة لا حروف لها ولا كلمات تبنى عليها، اكتسبنا ملكتها من الواقع وتذوقناها بالتزامها فوجدناها ذاك الإنعاش الذي يجعل النبض في استقرار لفترة، ذاك المسكن الذي يهدى الوجع وذاك المعقم الذي يقي الجرح لبرهة لعله يندمل ، وجدنا فيها تلك الراحة التي لم نجدها ونحن نثرثر دونما جدوى، فما فائدة الكلام إن استعصى علينا إيجاد المستمع لما نقول، ما الغاية من النطق في الهواء، وما الغاية من لغات لا تعدو مجرد لغات قراءات وكتابة ونطق لاغير، لم تعد تحدث وقعا في النفوس البشرية، أتراها اختلت أم نحن من تجاوز وقع الكلام نحو الصمت، كونه لا يحدث ضجيجا ولا يفتعل المشاكل وغالبا ما يلتزم السكون أمام قرارات قد يدمرها الكلام وعلاقات قد تنفصل بسببه،متنها سهل الانقطاع وحبلها يفك بلسان....
الصمت مفر الكثيرين من الجبناء الخائفين وملاذ الكثيرين من اولئك العاجزين الضعفاء هكذا كان قبل أن يصبح موطنا للكل حيث أضحى يستقبل كل من سئم من الكلام دون جدوى، من باح صوته من شدة الصراخ، ومن تعب من التعبير بلا فائدة، في دائرة تواصل مختلة الاتزان وبلغة صارت سيفا ذو حدين وممتلكها يضرب لها الف حساب قبل أن ينطق، لم تعد بديهية بسيطة كما كانت لقد تغيرت وصارت تحدث جدالات تافهة ونقاشات حادة تتلف التفكير، وتقتل هذا وتجرح ذاك و تطعنه، تلطخت بالنفاق والكذب وكل كلمة فيها تفسر حسب الأهواء والمزاج، لم تعد توصل رسالة موليير في الإنسانية والحب ببراءة، وأصبحت عاجزة عن إبلاغ حالة عنترة لعبرة زماننا، ولا في أن تربط بين السماء والأرض كما ربطها مولانا جلال الدين، جاذبيتها قلت باستغلالها الغير معقلن، واستنزاف بحرها اللغوي في اللاشيء فإلى أين المفر لقد تعب الكلام من الكلام يا نزار؟؟؟
أن تتعثر فينا الحروف ويعجز لساننا عن النطق أمام مواقف، أن يصبح التحدث من عدمه سيان، إن كان يدلان على شيء فهما يدلان على أننا سلكنا طريق تلك المقولة الجميلة التي تقول الندم على الصمت خير من الندم على الكلام وخير الكلام ما قل ودل، لقد وجدنا أننا نفهم اللغة بالصمت ونحس بخلجاتها ونحن ساكتين، نفهم تعبيراتها ونحن مستمعون فقط، فنلتزم الحياد كي نحافظ على ما لا نريده أن ينفك بزلة لسان ولا بكبسة زر على حرف ذنبه انه وجد هنا، نخاف أن نضيع في غياهب الكلمات، وفي أن نسحق من لا يستحق، وفي أن نطفئ شمعة يراع خط أولى الكلمات، في أن نقمع من سلك طريق الصراخ ليصل، في أن نفقم من يئن وجعا بكلام قد يزيد من حدته، وفي أن نفشل في فهم هذا وذاك، في أن نضيع بين الصواب والخطأ وفي أن نخسر قرارات وقناعات لا نريدها أن تتذمر، وفي أن نسقط مظلة الأمان التي نحتمي بها من جهنم الواقع وشياطين الإنس....
الصمت لغة اعترفت بها همومنا وأوجاعنا وصنفتها ضمن اللغات، وجعلتها متفوقة تعبيرا ورقيا، ورفعتها تحديا أمام غيوم الحياة والمجالات التي أصبحت تتحسس من الكلام ومن أي حرف ينطق، ومن تأويلات خارجة عن الاختصاص، فنصمت عندما نعلم أن حديثنا من عدمه لن يحدث فرقا، عندما نكتشف أن الكلمات عاجزة عن التعبير وعن الوصول إلى أعماق الجوارح، عندما نتصفح سطور صفحات بوحنا فلا نجدها قد أوصلته أمام أذن صماء لا تصغي، أنداك نصمت لنترك بعض الصفحات فارغة فهكذا تبدو أجمل صافية في بياضها نقية من شوائب الزمان.
فان كنت تريد أن تصل إلى عمق المعاني لا تبحث عنها بين اللغات ولا في عدد الكلمات والحروف، ستجدها بين السطور الصامتة والصفحات الفارغة واللوحات البيضاء، ستعثر عليها في تلك العيون التي تبكي دون أن تدمع، وبين تمتمات لسان عاجز عن النطق، ستصادفها وأنت تتأمل الوجود بعقل صامت، وستلامسها بين وقع خطواتك الصامت، وقتها تكون قد بلغت العمق وأبحرت في ثنايا حياة لن تبصرها بعين مفتوحة...
تمرد إذن على حصار اللغة واترك الحرف جانبا وانطلق نحو حقل الصمت حيث لك الحرية في أن تبكي كما تريد، في أن تصرخ كما تشاء، في أن تغضب على هواك، في أن تحزن على طريقتك وفي أن تعبر دون قيد، انطلق نحو حقل أنت فيه هو أنت...، فالبصمت ترتقي العقول أحيانا وتبصر فيما لن يبصره الكلام، اصطنعه بين الفينة والأخرى واصمت لان الصمت حكمة وفي همس السكون إنصات لي ولك.