محمد كمال بلحاج
شملت مضامين خطاب العرش للسنة الجارية الذي وُصف بالقوي والواضح والمباشر الإشارة إلى مجموعة من القضايا الداخلية، والذي نتوقف عندها من خلال هذا المقال في الشق الذي يخص الإدارة العمومية.
فحيث ما دامت شؤون وقضايا الوطن ترتبط بعضها البعض، وتحوم رحاها في حلقات متشابكة، فإن أول نقطتين أساسيتين لفتت الانتباه في الخطاب الملكي، هما حديث الملك عن الإدارة العمومية والأحزاب السياسية، فليست تلك المرة الأولى التي يتوجه فيها الملك في خطبه بالانتقاد اللاذع إلى الإدارة والأحزاب، حيث يحيلنا الأمر إلى خطاب افتتاح الدورة التشريعية على إثر الدخول البرلماني برسم السنة الفارطة.
فقد تطرق الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى الثامنة عشر لاعتلائه عرش المملكة المغربية، إلى توجيه النقد والعتاب للإدارة العمومية المغربية الذي عاب فيه ضعفها وغياب الجودة في خدماتها المقدمة للمواطنين ضاربا في ذلك على سبيل المثال المراكز الجهوية للاستثمار، فهل يتوقف بالتالي خطاب العرش لهذه السنة عند الانتقاد وتوصيف الوضع الداخلي المغربي المتردي على المستوى الإداري والسياسي والاجتماعي ليبقى الحال على هو عليه، أم أن أحداث الحسيمة التي زادت في تعرية الخلل الحاصل على المستوى التنموي على وجه التحديد، دفعت بأعلى سلطة في البلاد بإيلائها الأهمية عبر توجيه رسائل يشرح فيها الواقع العام في مضامين خطاب مختزل، وهل مرد ذلك أن هناك إيحاءات لإرادة سياسية تولدت للتو للإقدام على إعمال تغيير محسوس وملموس على صعيد كافة المستويات المذكورة ؟ إن أول خلل يعتري واقع الإدارة العمومية المغربية بما يشملها من قطاعات وزارية ومؤسسات عمومية وجماعات ترابية، هو طبيعة التقطيع الحكومي "إن صح التعبير" الذي يتخلله أسلوب توزيع الحقائب الوزارية والمناصب السياسية والإدارية، والذي ينبني في مجمله على منطق الولاءات والتراضيات السياسية، ليأتي من مرتبة موالية واقع الوظيفة العمومية في شقيها الرئيسيان وهما: التدبير والتسيير الإداري، ومردودية الموظفين العموميون. وبما أن الخطاب الملكي أشار بالشكل الواضح والمباشر إلى الموظفين العموميون، فلنتوقف إذن عند ما جاء في خطاب العرش في هذا المضمار حيث قال الملك : "أما
الموظفون العموميون، فالعديد منهم لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم ، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية" حقيقة ليس هناك مجال للشك أن هذا التوصيف لحالة الموظف العمومي هو توصيف واقعي إلى حد كبير، ذلك ما يجعلنا نطرح بشدة تساؤلا مرفوقا بالجواب عنه في نفس الآن وهو: إذا اعتبرنا أن الإدارة العمومية المغربية تتوفر على موظفين أكفاء وطموحين وتحركهم روح المسؤولية، فهل سيعود عليها ذلك بالنفع العام، أم أن الأمر سيعدو مجرد تحصيل حاصل؟ لا يستساغ بالتالي أن يكون هناك أدنى تشكيك عن كون الإدارة المغربية العمومية تتوفر حقا على موظفين أكفاء وأصحاب ضمائر مهنية نيرة يزخر بهم القطاع العام، إلا أنهم في غالب الأحيان يصطدمون ببعض المسؤولين من ذوي عقول العهد البائد، بل وإن مصيرهم الإداري يرتهن بأمزجة بعض هؤلاء المسؤولين، حيث أن هناك عدد كبير ممن يتقلدون المسؤولية داخل الإدارات المغربية المركزية والخارجية - مع مراعاة عدم السقوط في وحل التعميم- من تمنح لهم فرصة الإشراف على مصلحة أو قسم أو مديرية مثلا، فيعتقدون وكأنه قد أعطيت لهم الصلاحية للتحكم -وبدون أية مبالغة- في "ضيعة يستحوذون على صكوك امتلاكها" مما ينزع "لا محالة" الطابع المؤسساتي الذي يفترض أن تتوافق معه الإدارة العمومية، ليغلب عليها الطابع الشخصاني الذي يعيق تقدمها وتطورها.
إن الإشكال الجوهري الذي تعانيه الإدارة المغربية شأنها شأن الأحزاب السياسية، هو أنها على الرغم من إبداء الرغبة في تجديدها وتحديثها في كثير من الخطب الملكية، وتفعيل مبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة، إلا أن الإدارة المغربية مع التأكيد على عدم التعميم لا تزال في كثير من المواقع تسير وتدبر بعقليات عشعشت في داخلها الرجعية والأنانية والسلطوية الفارغة، مما يتسبب لها في هدر الزمن الإداري ويؤثرسلبا وبشكل جازم على فعالية هذا الموظف العمومي المشار إليه حتى وإن كان كفئا وطموحا ومتطلعا إلى الإسهام في الرفع من مردودية العمل الإداري، وبالتالي ينعكس ذلك لا محالة على سيرورة عمل الإدارة، ويكون المواطن المغربي الذي ترتبط مصالحه عادة بالإدارة العمومية أحد المتلقفين الأوائل لهذه المشاكل والمعيقات الإدارية التي لا ناقة له فيها ولا جمل. بناء على ذلك، يبزغ الاعتقاد على أنه لا يكمن مشكل الإدارة العمومية الرئيسي في الموظف العمومي بحد ذاته، بقدر ما يرتبط الإشكال العام بأساليب ومناهج التدبير والتسيير الإداري، فهناك العديد من الإدارات المركزية والجهوية التي تقدم على وضع موظفيها الجدد قيد التدريب والتكوين، ولكنها لا تفكر في تنظيم دورات تكوينية دورية لتلقين المسؤولين
تقنيات ومناهج التواصل والتدبير الإداري الحديث والعمل الجماعي المعاصر، وبما أن الملك دعا في خطابه إلى تغيير العقليات، فما السبيل إذن إلى تغيير هذه العقليات ؟
جوابا على هذا التساؤل، ومن أجل الإرتقاء بالإدارة العمومية وتطوير عملها موازاة مع ما يشهده القطاع الخاص، مع العلم أن واقع العمل في القطاع الخاص بالمغرب لا يعتبر بدوره مثاليا، بل وعديد من مؤسساته يشتغلون خارج القانون، ليست المسألة بالتالي مستحيلة التحقيق أو تحتاج إلى عصا سحرية لتغيير هذه العقليات داخل الإدارة العمومية، فالحل بكل بساطة شديدة يتجلى في التطبيق السليم والكامل للقانون وبدون تمييز، وتنفيذ أحكام وقرارات القضاء التي تُعنى بها الإدارة العمومية، كما ينبغي محاسبة ومتابعة كل مسؤول فاسد تبث تورطه في ملف أو قضية معينة أو تسبب في عرقلة مشاريع تنموية واستثمارية لمآرب شخصية وسياسوية، وذلك حتى يشعر المواطن المغربي بالتفعيل الحقيقي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الدستوري، وهنا لا يمكن أن نجد أبلغ مما أشار إليه الملك عن بعض المسؤولين المغاربة حيث قال : "أنا لا أفهم كيف يستطيع أي مسؤول ، لا يقوم بواجبه، أن يخرج من بيته، ويستقل سيارته، ويقف في الضوء الأحمر، وينظر إلى الناس، دون خجل ولا حياء، وهو يعلم بأنهم يعفون بانه ليس له ضمير . ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم، رغم أنهم يؤدون القسم أمام الله، والوطن، والملك، ولا يقومون بواجبهم؟ ألا يجدر أن تتم محاسبة أو إقالة أي مسؤول، إذا ثبت في حقه تقصير أو إخلال في النهوض بمهامه؟" في مقام مواز، ومن أجل تجاوز الضعف الذي تكتنفه الإدارة العمومية على مستوى المردودية والإنتاجية، يجب أولا تحديد كيف يمكن أن نقيس مستوى المردودية الإدارية، حتى يبرز لنا بذلك من يمتلك الكفاءة اللازمة ومن لا يمتلكها من الموظفين والمسؤولين، مع ضرورة وضع آليات ومساطر إدارية وقانونية واضحة ذات خطان متوازيان من شأنهما خلق التنافسية والمردودية، وذلك عبر تشجيع وتحفيز كل من يعمل بجد ومصداقية ومعاقبة وتأديب كل مقصر ومتهاون، ولربما على هذا المنوال ستتغير العقليات بشكل تدريجي وتلقائي، شريطة أن يتم ذلك لهدف واحد وموحد، وهو: خدمة الصالح العام.